كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 5)

فإن قلت: المثوبة مختصة بالإحسان، فكيف جاءت في الإساءة؟ قلت: وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
ومنه (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران: 21].
فإن قلت: المعاقبون من الفريقين هم اليهود، فلم شورك بينهم في العقوبة؟ قلت: كان اليهود - لعنوا - يزعمون أن المسلمين ضالون مستوجبون للعقاب، فقيل لهم: من لعنه اللَّه شر عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (على طريقة قوله: تحية بينهم ضرب وجيع) على طريقة الادعاء في المبالغة والتهكم، لا أن المثال من الاستعارة كالآية؛ لأن المشبه هو التحية والمشبه به الضرب، وهما مذكوران بخلافه في الآية، فإن المشبه فيها العقوبة والمشبه به المذكورة المثوبة. نعم، الآية المستشهد بها استعارة تهكمية.
قوله: (من لعنه الله شرٌّ عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم)، فإن قلت: أليس هذا مشعراً بأن لفظة "شر" مستعمل بالنسبة إلى {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} بالحقيقة، وبالنسبة إلى أهل الإسلام بالمجاز؟ قلت: لا؛ لأنه تعالى جعل المفضل والمفضل عليه من جنس واحد على سبيل المبالغة، أحدهما: بالحقيقة، والآخر: بالادعاء على زعم الكفرة، ثم فضل أحدهما على الآخر جرياً على سنن إرخاء العنان، وكلام المصنف ومثله في الأسلوب جعل المال والبنين وسلامة القلب من جنس واحد، ثم استثنى أحد الجنسين من الآخر في قوله تعالى {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]، وهو قريبٌ من القول بعموم المجاز.

الصفحة 407