كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 5)

وصف اللَّه شدّة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق ولين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين، بل نبه على تقدّم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا، وكذلك فعل في قوله (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [البقرة: 96]، ولعمري إنهم لكذلك وأشدّ. وعن النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله».
وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين (بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) أي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ}). وقلت: وفي وضع {مَا} الموصولة مع صلتها موضع "النصارى"؛ لأنه في مقابلة ذكر اليهود تتميم لذلك المعنى. فإن قلت: أي فرق بين هذا المعنى في هذا المقام وبينه في قوله تعالى: {وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14]؟ قلت: ولا ارتياب أن المعاني تتفاوت بحسب تفاوت المقامات، فإن مقام المدح يقتضي أن يفسر بما ينبئ عن المدح وبالعكس، ولما كان ذلك المقام مقام نقض الميثاق، كان المعنى على التعبير والتأنيب، وأني قال: من الذين ادعوا على أنفسهم هذا الوصف الفاضل: أخذنا ميثاقهم فنسوا، وقد ذكرنا أن نسبة النسيان إليهم ونقص الميثاق إلى اليهود مراعاة لهذا المعنى، وهو سهولة مأخذهم وشدة شكيمة اليهود، ولكن في قول المصنف في ذلك المقام: "إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله" تسامح لما كان ينبغي له أن يقول: إنما حكى الله تعالى قولهم ذلك تعبيراً لهم وتذكيراً لما نسبوا إلى أنفسهم ثم نسوه، قال صاحب "الانتصاف": إنما قال: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} تعريضاً لشدة ضلالة اليهود في الكفر إذ قيل لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} الآية [المائدة: 21]، فقالوا: اذهب أنت

الصفحة 456