كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 5)
والمشركون وهم يغرونه عليهم ويتطلبون عنتهم عنده -: هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر: فيه سورة تنسب إليها، فقرأها إلى قوله: (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) [مريم: 34] وقرأ سورة طه إلى قوله: (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) [طه: 9] فبكى النجاشي، وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهم سبعون رجلاً حين قرأ عليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سورة يس، فبكوا.
فإن قلت: بم تعلقت اللام في قوله: (لِلَّذِينَ آمَنُوا)؟ قلت: بـ (عداوة) و (مودّة) على أنّ عداوة اليهود التي اختصت المؤمنين أشدّ العداوات وأظهرها، وأن مودّة النصارى التي اختصت المؤمنين أقرب المودّات، وأدناها وجوداً، وأسهلها حصولاً. ووصف اليهود بالعداوة والنصارى بالمودّة مما يؤذن بالتفاوت، ثم وصف العداوة والمودّة بالأشدّ والأقرب.
فإن قلت: ما معنى قوله: (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)؟ قلت: معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة
المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها، أي: تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك: دمعت عينه دمعاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثم وصف العداوة والمودة بالأشد والأقرب) يريد أن هذا الوصف تتميم لذلك المعنى، على أن "أقرب" محمول على قرب الحال لا التفضيل؛ لأن اليهود ليسوا من المودة في شيء.
قوله: (أو قصدت المبالغة) هذا يوهم أن الوجه الأول ليس فيه مبالغة، وكيف به وإنه من المجاز المرسل؟ لكن مراده أن الثاني أبلغ؛ لأنه من الإسناد المجازي، من قولك: نهر جار وطريق سائر. الانتصاف: هذه العبارة أبلغ العبارات، فأولها: فاض دمع عينه، وهو الأصل،