كتاب مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (اسم الجزء: 5)

الأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر حتَّى ما ترك لي الحقُّ صديقًا (¬1).
وبعث إليه حَبيب بن مَسلمة وهو أمير الشام بثلاث مئة دينار، وقال: استَعِن بها على حاجتك، فقال أبو ذرّ لرسوله: ارجع بها إليه، أما وَجَد أحدًا أغرَّ بالله منا، ما لنا إلَّا ظلٌّ نتوارى به، وثَلَّةٌ من غَنَم تَروح وتغدو علينا، ومولاة لنا تصدَّقتْ علينا بخِدمَتِها، ثم إنِّي لأَتَخَوَّفُ الفَضْلَ (¬2).
ودخل رجل على أبي ذر، فجعل يُقَلِّبُ بَصَرَه في بيته، فلم يَرَ فيه شيئًا، فقال: يا أبا ذرّ؛ أين مَتاعُكم؟ فقال: إن لنا بيتًا آخر، نُوجّه إليه صالِحَ متاعنا، قال: إنه لابُدَّ لك من متاع ما دُمتَ ها هنا، فقال: إن صاحبَ المنزل لا يَدَعُنا فيه.
وكان يقول: الجليسُ الصّالح خيرٌ من الوَحدة، والوَحدة خيرٌ من جَليس السُّوء، ومُمْلي الخير خيرٌ من الصَّامت، والصَّامتُ خيرٌ من مُملي الشَرّ، والأمانةُ خيرٌ من الخيانة، والخائن خيرٌ من ظنِّ السُّوء (¬3).
قال أبو ذر - رضي الله عنه -: كنتُ أخْدُمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم آتي المسجدَ إذا أنا فرغتُ من عَملي، فأَضْطَجع فيه، فأتاني رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يومًا وأنا مُضطجعٌ، فغَمَزني برِجله، فاستويتُ جالسًا، فقال لي: "يا أبا ذر، كيف تَصنع إذا أُخرجتَ منها؟ "، قلتُ: أنطلقُ إلى السَّعةِ والدَّعة، فأكون حَمامًا من حمام مكّة، قال: "فكيف تَصنعُ إذا أُخرجتَ من مكّة؟ "، قلت: "إلى، السَّعةِ والدَّعة، أنطلقُ إلى الأرض المقدَّسة والشام، قال: "فكيف تَصنَعُ إذا أُخرجتَ من الشام؟ "، قال: إذا أَضَع سيفي على عاتِقي، قال: "أَوَخيرٌ من ذلك؟ تسمعُ وتُطيعُ وإنْ كان عبدًا حَبَشيًّا" (¬4).
قالت أمُّ ذرّ: لما حضرت الوفاةُ أبا ذرّ بكيتُ، فقال: ما يُبكيكِ؟ قلتُ: وما لي لا أبكي وأنتَ تموتُ بفَلاةٍ من الأرض، ولا يَدان لي بتَغييبك، وليس معنا ما يَسعُك كَفَنًا، فقال: لا تبكي وأَبشِري، فإني سمعتُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول لنفَرٍ أنا فيهم:
¬__________
(¬1) طبقات ابن سعد 4/ 222.
(¬2) حلية الأولياء 1/ 161.
(¬3) الخبران في تاريخ دمشق 19/ 37، 39 (مخطوط).
(¬4) مسند أحمد (21551).

الصفحة 492