كتاب المصنف لعبد الرزاق الصنعاني - ط التأصيل (اسم الجزء: 5)
فَقَالَ لأَهْلِ المَاءِ: هَلْ أَحْسَسْتُمْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ؟ قَالَ: فَهَلْ مَرَّ بِكُمْ أَحَدٌ؟ قَالُوا: مَا رَأَيْنَا إِلاَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ أَبو سُفْيَانَ: فَأَيْنَ كَانَ مُنَاخُهُمَا؟ فَدَلُّوهُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ، حَتَّى أَتَى بَعَرًا لَهُمَا، فَفَتَّهُ، فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: أَنَّى لِبَنِي فُلاَنٍ هَذَا النَّوَى؟ هَذِي نَوَاضِحُ أَهْلِ يَثْرِبَ، فَتَرَكَ الطَّرِيقَ، وَأَخَذَ سِيفَ الْبَحْرِ، وَجَاءَ الرَّجُلاَنِ، فَأَخْبَرَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَخَذَ هَذِهِ الطَّرِيقَ؟ قَالَ أَبو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَنَا، هُوَ بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، وَنَحْنُ بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، فَيَرْتَحِلُ، فَيَنْزِلُ بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، وَنَنْزِلُ بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَنْزِلُ بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، وَنَنْزِلُ بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ نَلْتَقِي بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، كَأَنَّا فَرَسَا رِهَانٍ، فَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى نَزَلَ بَدْرًا، فَوَجَدَ عَلَى مَاءِ بَدْرٍ بَعْضَ رَقِيقِ قُرَيْشٍ مِمَّنْ خَرَجَ يُغِيثُ أَبَا سُفْيَانَ، فَأَخَذَهُمْ أَصْحَابُهُ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُمْ، فَإِذَا صَدَقُوهُمْ ضَرَبُوهُمْ، وَإِذَا كَذَبُوهُمْ تَرَكُوهُمْ، فَمَرَّ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ صَدَقُوكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمْ، وَإِذَا كَذَبُوكُمْ تَرَكْتُمُوهُمْ، ثُمَّ دَعَا وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَالَ: مَنْ يُطْعِمُ الْقَوْمَ؟ قَالَ: فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَعَدَّ رِجَالاً يُطْعِمُهُمْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَوْمًا، قَالَ: فَكَمْ يُنْحَرُ لَهُمْ؟ قَالَ: عَشْرًا مِنَ الْجَزُورِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجَزُورُ بِمِئَةٍ، وَهُمْ بَيْنَ الأَلْفِ وَالتِّسْعِ مِئَةِ.
قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ المُشْرِكُونَ وَصَافُّوهُمْ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَشَارَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قِتَالِهِمْ، فَقَامَ أَبو بَكْرٍ يُشِيرُ عَلَيْهِ، فَأَجْلَسَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَشَارَ، فَقَامَ عُمَرُ يُشِيرُ عَلَيْهِ، فَأَجْلَسَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ، فَقَامَ سَعْدُ بن عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَكَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بِنَا الْيَوْمَ لِتَعْلَمَ مَا فِي نُفُوسِنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا حَتَّى بَرْكَ الْغِمَادُ مِنْ ذِي يَمَنٍ لَكُنَّا مَعَكَ، فَوَطَّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَلَى الصَّبْرِ وَالْقِتَالِ، وَسُرَّ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا الْتَقَوْا سَارَ فِي قُرَيْشٍ عُتْبَةُ بن رَبِيعَةَ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِي، أَطِيعُونِي وَلاَ تُقَاتِلُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ قَاتَلْتُمُوهُمْ لَمْ يَزَلْ بَيْنَكُمْ إِحْنَةٌ مَا بَقِيتُمْ، وَفَسَادٌ لاَ يَزَالُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ يَنْظُرُ إِلَى قَاتِلِ أَخِيهِ، وَإِلَى قَاتِلِ ابْنِ عَمِّهِ، فَإِنْ يَكُنْ مُلْكًا أَكَلْتُمْ فِي مُلْكِ أَخِيكُمْ، وَإِنْ يَكُ نَبِيًّا، فَأَنْتُمْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا كَفَتْكُمُوهُ ذُئْبَانُ الْعَرَبِ، فَأَبَوْا أَنْ يَسْمَعُوا مَقَالَتَهُ، وَأَبَوْا أَنْ يُطِيعُوهُ، فَقَالَ: أُنْشِدُكُمُ اللهَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي كَأَنَّهَا المَصَابِيحُ أَنْ تَجْعَلُوهَا أَنْدَادًا لِهَذِهِ الْوُجُوهِ، الَّتِي كَأَنَّهَا عُيُونُ الْحَيَّاتِ، فَقَالَ أَبو جَهْلٍ: لَقَدْ مَلأْتَ سَحْرَكَ رُعْبًا،
الصفحة 26