كتاب المصنف لعبد الرزاق الصنعاني - ط التأصيل (اسم الجزء: 5)

فَلَمَّا اسْتَوَى، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ، وَلَيْسَ لَهُ كَثِير مَالٍ، اسْتَأْجَرَتْهُ خَدِيجَةُ ابْنَةُ خُوَيْلِدٍ إِلَى سُوقِ حُبَاشَةَ، وَهُوَ سُوقٌ بِتَهَامَةَ، وَاسْتَأْجَرَتْ مَعَهُ رَجُلاً آخَرَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْهَا: مَا رَأَيْتُ مِنْ صَاحِبَةِ أَجِيرٍ خَيْرًا مِنْ خَدِيجَةَ، مَا كُنَّا نَرْجِعُ أَنَا وَصَاحِبِي إِلاَّ وَجَدْنَا عِنْدَهَا تُحْفَةً مِنْ طَعَامٍ، تُخْبِئْهُ لَنَا، قَالَ: فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ سُوقِ حُبَاشَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْتُ لِصَاحِبِي: انْطَلِقْ بِنَا نُحْدِثُ عِنْدَ خَدِيجَةَ، قَالَ: فَجِئْنَاهَا، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهَا، إِذْ دَخَلَتْ عَلَيْنَا مُنْتَشِيَةٌ مِنْ مُوَلَّدَاتِ قُرَيْشٍ، وَالمُنْتَشِيَةُ النَّاهِدُ الَّتِي تَشْتَهِي الرَّجُلَ، قَالَتْ: أَمُحَمَّدٌ هَذَا؟ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، إِنْ جَاءَ لَخَاطِبًا، فَقُلْتُ: كَلاَّ، فَلَمَّا خَرَجْنَا أَنَا وَصَاحِبِي، قَالَ: أَمِنْ خِطْبَةِ خَدِيجَةَ تَسْتَحْيِي؟ فَوَاللهِ مَا مِنْ قُرَشِيَّةٍ إِلاَّ تَرَاكَ لَهَا كُفْوًا، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَدَخَلَتْ عَلَيْنَا تِلْكَ المُنْتَشِيَةُ، فَقَالَتْ: أَمُحَمَّدٌ هَذَا؟ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، إِنْ جَاءَ لَخَاطِبًا، قَالَ: قُلْتُ عَلَى حَيَاءٍ: أَجَلْ، قَالَ: فَلَمْ تَعْصِنَا خَدِيجَةُ وَلاَ أُخْتُهَا، فَانْطَلَقَتْ إِلَى أَبِيهَا خُوَيْلِدُ بن أَسَدٍ، وَهُوَ ثَمِلٌ مِنَ الشَّرَابِ، فَقَالَتْ: هَذَا ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّدُ بن عَبدِ اللهِ يَخْطُبُ خَدِيجَةَ،
وَقَدْ رَضِيَتْ خَدِيجَةُ، فَدَعَاهُ، فَسَأَلَهُ عَن ذَلِكَ، فَخَطَبَ إِلَيْهِ فَأَنْكَحَهُ، قَالَ: فَخَلَّقَتْ خَدِيجَةُ، وَحَلَّتْ عَلَيْهِ حُلَّةً، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ صَحَا الشَّيْخُ مِنْ سُكْرِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الْخَلُوقُ؟ وَمَا هَذِهِ الْحُلَّةُ؟ قَالَتْ أُخْتُ خَدِيجَةَ: هَذِهِ حُلَّةٌ كَسَاكَ ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّدُ بن عَبدِ اللهِ، أَنْكَحْتَهُ خَدِيجَةَ، وَقَدْ بَنَى بِهَا، فَأَنْكَرَ الشَّيْخُ، ثُمَّ سَلَّمَ إِلَى أَنْ صَارَ ذَلِكَ، وَاسْتَحْيَى، وَطَفِقَتْ رُجَّازٌ مِنْ رُجَّازِ قُرَيْشٍ تَقُولُ:
لاَ تَزْهَدِي خَدِيجُ فِي مُحَمَّدِ ... جَلْدٌ يُضِيءُ كَضِيَاءِ الْفَرْقَدِ.
فَلَبِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ خَدِيجَةَ، حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ بَعْضَ بَنَاتِهِ، وَكَانَ لَهَا وَلَهُ الْقَاسِمُ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءَ أَنَّهَا وَلَدَتْ لَهُ غُلاَمًا آخَرَ يُسَمَّى الطَّاهِرُ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا نَعْلَمُهَا وَلَدَتْ لَهُ إِلاَّ الْقَاسِمَ، وَوَلَدَتْ لَهُ بَنَاتَهُ الأَرْبَعَ: زَيْنَبَ، وَفَاطِمَةَ، وَرُقَيَّةَ، وَأُمَّ كُلْثُومٍ، وَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا وَلَدَتْ لَهُ بَعْضَ بَنَاتِهِ يَتَحَنَّثُ، وَحُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ.

الصفحة 9