كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 5)

ابن هُدْبَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ تَسْتَعْدِي زَوْجَهَا، فَقَالَتْ: لَيْسَ لِي مَا لِلنِّسَاءِ، زَوْجِي يَصُومُ الدَّهْرَ. قَالَ: (لَكِ يَوْمٌ وَلَهُ يَوْمٌ، لِلْعِبَادَةِ يَوْمٌ وَلِلْمَرْأَةِ يَوْمٌ). الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: فِي الْمَيْلِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْجِمَاعِ وَالْعِشْرَةِ والقسم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنين، (فَواحِدَةً). فَمَنَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ. وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقُرِئَتْ بِالرَّفْعِ، أَيْ فَوَاحِدَةٌ فِيهَا كِفَايَةٌ أَوْ كَافِيَةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: فَوَاحِدَةٌ تُقْنِعُ. وَقُرِئَتْ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ فَانْكِحُوا وَاحِدَةً. الثَّانِيةُ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يُرِيدُ الْإِمَاءَ. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى (فَواحِدَةً) أَيْ إِنْ خَافَ أَلَّا يَعْدِلَ فِي وَاحِدَةٍ فَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَلَّا حَقَّ لِمِلْكِ اليمين في الوطي ولا القسم، لا ن الْمَعْنَى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) فِي الْقَسْمِ (فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فَجَعَلَ مِلْكَ الْيَمِينِ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَانْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ يكون للإماء حق في الوطي أَوْ فِي الْقَسْمِ. إِلَّا أَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ فِي الْعَدْلِ قَائِمٌ بِوُجُوبِ حُسْنِ الْمَلَكَةِ وَالرِّفْقِ بِالرَّقِيقِ. وَأَسْنَدَ تَعَالَى الْمِلْكَ إِلَى الْيَمِينِ إِذْ هِيَ صِفَةُ مَدْحٍ، وَالْيَمِينُ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَحَاسِنِ لِتَمَكُّنِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا الْمُنْفِقَةُ؟ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ) وَهِيَ الْمُعَاهِدَةُ الْمُبَايِعَةُ، وَبِهَا سُمِّيَتِ الْأَلِيَّةُ يَمِينًا، وَهِيَ الْمُتَلَقِّيَةُ لِرَايَاتِ الْمَجْدِ، كَمَا قَالَ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ «١»

الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أَيْ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى أَلَّا تَمِيلُوا عَنِ الْحَقِّ وَتَجُورُوا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا. يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعُولُ إِذَا جَارَ وَمَالَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَالَ السَّهْمُ عَنِ الْهَدَفِ مَالَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ لعائل الكيل والوزن، قال الشاعر:
---------------
(١). البيت للشماخ، يمدح عرابة الأوسي. وقبله:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين

الصفحة 20