كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 5)
مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ بِسَلَامِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ كَمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ إِذَا شَافَهَهُ. وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، فَقَالَ: (عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ). وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: (لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ وَلَكِنْ قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكَ). وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِتَقْدِيمِ اسْمِ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ فِي الشَّرِّ كَقَوْلِهِمْ: عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ «١»). وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا دَأْبُ الشُّعَرَاءِ وَعَادَتُهُمْ فِي تَحِيَّةِ الْمَوْتَى، كَقَوْلِهِمْ:
عَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ ... وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا
وَقَالَ آخَرُ وَهُوَ الشَّمَّاخُ:
عَلَيْكَ سَلَامٌ مِنْ أَمِيرٍ وَبَارَكَتْ ... يَدُ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْأَدِيمِ الْمُمَزَّقِ
نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، لَا أَنَّ ذَاكَ هُوَ اللَّفْظُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ الْمَوْتَى، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى الْمَوْتَى كَمَا سَلَّمَ عَلَى الْأَحْيَاءِ فَقَالَ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ). فَقَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَقُولُ إِذَا دَخَلْتُ الْمَقَابِرَ؟ قَالَ: (قُولِي السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ (أَلْهَاكُمْ»
) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قُلْتُ: وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَغَيْرُهُ فِي السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ جَمِيعِهِمْ إِذَا دَخَلَهَا وَأَشْرَفَ عَلَيْهَا، وَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ خَاصٌّ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمُرُورِ الْمَقْصُودِ بِالزِّيَارَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- مِنَ السُّنَّةِ تَسْلِيمُ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي، وَالْقَائِمِ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ، هَكَذَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ) فَذَكَرَهُ فَبَدَأَ بِالرَّاكِبِ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، وَلِأَنَّ ذلك أبعد له من الزهو،
---------------
(١). راجع ج ١٥ ص ٢٢٨.
(٢). راجع ج ٢٠ ص ١٦٨
الصفحة 301