كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 5)

وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي الْمَاشِي مِثْلُهُ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ الْقَاعِدُ عَلَى حَالِ وَقَارٍ وَثُبُوتٍ وَسُكُونٍ فَلَهُ مَزِيَّةٌ بِذَلِكَ عَلَى الْمَاشِي، لِأَنَّ حَالَهُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَسْلِيمُ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ فَمُرَاعَاةٌ لِشَرَفِيَّةِ جَمْعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَكْثَرِيَّتِهِمْ. وَقَدْ زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (وَيُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ). وَأَمَّا تَسْلِيمُ الْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ فَرَوَى أَشْعَثُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى التَّسْلِيمَ عَلَى الصِّبْيَانِ، قَالَ: لِأَنَّ الرَّدَّ فَرْضٌ وَالصَّبِيُّ لَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَلَكِنْ لَا يُسْمِعُهُمْ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: التَّسْلِيمُ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَيَّارٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ ثَابِتٍ فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ أَنَسٍ فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَحَدَّثَ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَهَذَا مِنْ خُلُقِهِ الْعَظِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ تَدْرِيبٌ لِلصَّغِيرِ وَحَضٌّ عَلَى تَعْلِيمِ السُّنَنِ وَرِيَاضَةٌ لَهُمْ عَلَى آداب الشريعة فيه، فلتقتد. وَأَمَّا التَّسْلِيمُ عَلَى النِّسَاءِ فَجَائِزٌ إِلَّا عَلَى الشَّابَّاتِ مِنْهُنَّ خَوْفَ الْفِتْنَةِ مِنْ مُكَالَمَتِهِنَّ بِنَزْعَةِ شَيْطَانٍ أَوْ خَائِنَةِ عَيْنٍ. وَأَمَّا الْمُتَجَالَّاتُ «١» وَالْعُجْزُ فَحَسَنٌ لِلْأَمْنِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَمَنَعَهُ الْكُوفِيُّونَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ مَحْرَمٍ وَقَالُوا: لَمَّا سَقَطَ عَنِ النِّسَاءِ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَالْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُنَّ رَدُّ السَّلَامِ فَلَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِنَّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ. قُلْتُ «٢» وَلِمَ؟ قَالَ: كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَيَّ بِضَاعَةً- قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: نَخْلٌ بِالْمَدِينَةِ- فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ «٣» فَتَطْرَحُهُ فِي الْقِدْرِ وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا فَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ: وَمَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ تكركر أي تطحن، قاله القتبي.
---------------
(١). المتجالة: الهرمة المسنة.
(٢). في ز: قيل.
(٣). السلق (بكسر السين): نبت له ورق طوال واصل ذاهب في الأرض وورقه رخص يطبخ.

الصفحة 302