كتاب فتح القدير للشوكاني (اسم الجزء: 5)

الْغَلِيظِ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فَشُدُّوا الْوَثاقَ الْوَثَاقَ بِالْفَتْحِ وَيَجِيءُ بِالْكَسْرِ: اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ كَالرِّبَاطِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَأَوْثَقَهُ فِي الْوَثَاقِ، أَيْ: شَدَّهُ، قَالَ: وَالْوِثَاقُ بِكَسْرِ الْوَاوِ لُغَةٌ فِيهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ فَشُدُّوا بِضَمِّ الشِّينِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِكَسْرِهَا، وَإِنَّمَا أمر سبحانه بشدّ الوثاق لئلا ينفلتو، وَالْمَعْنَى: إِذَا بَالَغْتُمْ فِي قَتْلِهِمْ فَأْسِرُوهُمْ وَأَحِيطُوهُمْ بِالْوَثَاقِ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أَيْ:
فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْأَسْرِ مَنًّا، أَوْ تَفْدُوا فِدَاءً، وَالْمَنُّ: الْإِطْلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْفِدَاءُ: مَا يَفْدِي بِهِ الْأَسِيرُ نَفْسَهُ مِنَ الْأَسْرِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَتْلَ هُنَا اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِداءً بِالْمَدِّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِدًى بِالْقَصْرِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمَنَّ عَلَى الْفِدَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْتَخِرُ بِهِ، كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ:
وَلَا نَقْتُلُ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ ... إِذَا أَثْقَلَ الْأَعْنَاقَ حَمْلُ الْمَغَارِمِ
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْغَايَةَ لِذَلِكَ قال: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أَوْزَارُ الْحَرْبِ: الَّتِي لَا تَقُومُ إِلَّا بِهَا مِنَ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، أَسْنَدَ الْوَضْعَ إِلَيْهَا وَهُوَ لِأَهْلِهَا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ تِلْكَ الْأُمُورِ إِلَى غَايَةٍ هِيَ أَنْ لَا يَكُونَ حَرْبٌ مَعَ الْكُفَّارِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى حَتَّى لَا يَكُونَ دِينٌ غَيْرُ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: حَتَّى يُسْلِمَ الْخَلْقُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيَذْهَبَ الْكُفْرُ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى: حَتَّى يَضَعَ الْأَعْدَاءُ الْمُحَارِبُونَ أَوْزَارَهُمْ، وَهُوَ سِلَاحُهُمْ بِالْهَزِيمَةِ أَوِ الْمُوَادَعَةِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمَا قَالَا: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَإِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَادَوْا وَلَا يُمَنَّ عَلَيْهِمْ، وَالنَّاسِخُ لَهَا قَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» وَقَوْلُهُ:
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ «2» وقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «3» وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: قَالُوا: وَالْمَائِدَةُ آخِرُ مَا نَزَلَ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ كُلُّ مُشْرِكٍ إِلَّا مَنْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَرْكِهِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَبَعْدَ الْأَسْرِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ لأن النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَكُونُ فِدَاءٌ وَلَا أَسْرٌ إِلَّا بَعْدَ الْإِثْخَانِ وَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ لِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ «4» فَإِذَا أَسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا رَآهُ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ مَحَلُّ «ذَلِكَ» الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ
__________
(1) . التوبة: 5.
(2) . الأنفال: 57.
(3) . التوبة: 36.
(4) . الأنفال: 67.

الصفحة 37