كتاب الكامل في التاريخ (اسم الجزء: 5)

وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَاصْطَفُّوا لِخُرُوجِ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَأَتَوْا بِالدَّوَابِّ، فَرَكِبَ بِرْذَوْنًا أَبْلَقَ، وَرَكِبَ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَدَخَلُوا دَارَ الْإِمَارَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَخَطَبَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ.
ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ حِينَ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فَقَامَ فِي أَعْلَاهُ، وَصَعِدَ عَمُّهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ فَقَامَ دُونَهُ، فَتَكَلَّمَ أَبُو الْعَبَّاسِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اصْطَفَى الْإِسْلَامَ لِنَفْسِهِ، وَكَرَّمَهُ، وَشَرَّفَهُ، وَعَظَّمَهُ، وَاخْتَارَهُ لَنَا، فَأَيَّدَهُ بِنَا، وَجَعَلَنَا أَهْلَهُ، وَكَهْفَهُ، وَحِصْنَهُ، وَالْقُوَّامَ بِهِ، وَالذَّابِّينَ عَنْهُ، وَالنَّاصِرِينَ لَهُ، فَأَلْزَمَنَا كَلِمَةَ التَّقْوَى، وَجَعَلَنَا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا، وَخَصَّنَا بِرَحِمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَابَتِهِ، وَأَنْشَأَنَا مِنْ آبَائِنَا، وَأَنْبَتَنَا مِنْ شَجَرَتِهِ، وَاشْتَقَّنَا مِنْ نَبْعَتِهِ، جَعَلَهُ مِنْ أَنْفُسِنَا عَزِيزًا عَلَيْهِ مَا عَنِتْنَا، حَرِيصًا عَلَيْنَا، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا، وَوَضَعَنَا مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِالْمَوْضِعِ الرَّفِيعِ.
وَأَنْزَلَ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ كِتَابًا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ، وَقَالَ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، وَقَالَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] ، وَقَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [الأنفال: 41] .
فَأَعْلَمَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَضْلَنَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ حَقَّنَا وَمَوَدَّتَنَا، وَأَجْزَلَ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ نَصِيبَنَا تَكْرِمَةً لَنَا وَفَضْلًا عَلَيْنَا، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَزَعَمَتِ السَّبَئِيَّةُ الضُّلَّالُ أَنَّ غَيْرَنَا أَحَقُّ بِالرِّيَاسَةِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْخِلَافَةِ مِنَّا، فَشَاهَتْ وُجُوهُهُمْ! وَلِمَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ ! وَبِنَا هَدَى اللَّهُ النَّاسَ بَعْدَ ضَلَالَتِهِمْ، وَبَصَّرَهُمْ

الصفحة 8