كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

سَدُومَ بْنِ بَاقِيمَ الَّذِي يُضْرَبُ الْمَثَلُ فِي الْحُكُومَاتِ هَاجَرَ لُوطٌ مَعَ عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ فَنَزَلَ إِبْرَاهِيمُ أَرْضَ فِلَسْطِينَ وَأَنْزَلَ لُوطًا الْأُرْدُنَّ.
إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ يَتَقَذَّرُونَ عَنْ إِتْيَانِ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَقِيلَ يَأْتُونَ النِّسَاءَ فِي الْأَطْهَارِ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: يَرْتَقِبُونَ أَطْهَارَ النِّسَاءِ فَيُجَامِعُونَهُنَّ فِيهَا، وَقِيلَ: يَتَنَزَّهُونَ عَنْ فِعْلِنَا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَقِيلَ: يَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَيَتَطَهَّرُونَ بِالْمَاءِ عَيَّرُوهُمْ بِذَلِكَ وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ التَّعْرِيضَ بِمَا يُوهِمُ الذَّمَّ وَهُوَ مَدْحٌ كَقَوْلِهِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَابُوهُمْ بِمَا يُمْدَحُ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ إِنَّهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْإِخْرَاجِ أَيْ لِأَنَّهُمْ لَا يُوَافِقُونَنَا عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا يُوَافِقُنَا وَجَبَ أَنْ نُخْرِجَهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ سُخْرِيَةٌ بِهِمْ وَبِتَطَهُّرِهِمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَافْتِخَارٌ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْقَذَارَةِ كَمَا يَقُولُ الشَّيْطَانُ مِنَ الفسقة لبعض الصلحاء إذ وَعَظَهُمُ أَبْعِدُوا عَنَّا هَذَا الْمُتَقَشِّفَ وَأَرِيحُونَا مِنْ هَذَا الْمُتَزَهِّدِ.
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أَيْ فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِقَوْمِهِ وَأَهْلَهُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ أَوِ ابْنَتَاهُ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ وَاسْتَثْنَى مِنْ أَهْلِهِ امْرَأَتَهُ فَلَمْ تَنْجُ وَاسْمُهَا وَاهِلَةُ كَانَتْ مُنَافِقَةً تُسِرُّ الْكُفْرَ مُوَالِيَةً لِأَهْلِ سَدُومَ وَمَعْنَى مِنَ الْغابِرِينَ مِنَ الَّذِينَ بَقُوا فِي دِيَارِهِمْ فَهَلَكُوا وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ تَفْسِيرًا وَتَوْكِيدًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَوْنِهَا لَمْ يُنْجِهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِلَّا امْرَأَتَهُ اكْتَفَى بِهِ فِي أَنَّهَا لَمْ تَنْجُ ثُمَّ ابْتَدَأَ وَصْفَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِصِفَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا النَّجَاةُ وَلَا الْهَلَكَةُ وَهِيَ أَنَّهَا كَانَتْ مِمَّنْ أَسَنَّ وَبَقِيَ مِنْ عَصْرِهِ إِلَى عَصْرِ غَيْرِهِ فَكَانَتْ غَابِرَةً أَيْ مُتَقَدِّمَةً فِي السِّنِّ كَمَا قَالَ: إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ إِلَى أَنْ هَلَكَتْ مَعَ قَوْمِهَا انْتَهَى، وَجَاءَ مِنَ الْغابِرِينَ تَغْلِيبًا لِلذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنَ الْغَائِبِينَ عَنِ النَّجَاةِ فَيَكُونُ تَوْكِيدًا لِمَا تضمنه الاستثناء انتهى، وكانَتْ بِمَعْنَى صَارَتْ أَوْ كَانَتْ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَوْ بَاقِيَةٌ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ تَقْيِيدِ غُبُورِهَا بِالزَّمَانِ الْمَاضِي أَقْوَالٌ.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ضَمَّنَ أَمْطَرْنا مَعْنَى أَرْسَلْنَا فَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِعَلَى كَقَوْلِهِ فَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ وَالْمَطَرُ هُنَا هِيَ حِجَارَةٌ وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ آيَةٍ خَسَفَ بِهِمْ

الصفحة 102