كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

الْغَيْبَةِ،
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»
وَالْعَجَبُ إِطْبَاقُ مَنْ يَتَظَاهَرُ بِالصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَالْعِلْمِ عَلَى عَدَمِ إِنْكَارِ هَذِهِ الْمُكُوسِ وَالضَّمَانَاتِ وَادِّعَاءِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي الْوُجُودِ وَدَلَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ إِنَّهُ يَدْعُو فَيُسْتَجَابُ لَهُ فِيمَا أَرَادَ وَيَضْمَنُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ الْجَنَّةَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَرَدَّدُ لِأَصْحَابِ الْمُكُوسِ وَيَتَذَلَّلُ إِلَيْهِمْ فِي نَزْعِ شَيْءٍ حَقِيرٍ وَأَخْذِهِ مِنَ الْمَكْسِ الَّذِي حَصَّلُوهُ وَهَذِهِ وَقَاحَةٌ لَا تَصْدُرُ مِمَّنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْإِيمَانِ وَلَا تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
تَسَاوَى الْكُلُّ مِنَّا فِي الْمَسَاوِي ... فَأَفْضَلُنَا فَتِيلًا مَا يُسَاوِي
وَعَلَى الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ يَكُونُ الْقُعُودُ بِكُلِّ صِرَاطٍ حَقِيقَةً وَحَمَلَ الْقُعُودَ وَالصِّرَاطَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الْمَجَازِ، فَقَالَ وَلَا تَقْتَدُوا بِالشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ «1» فَتَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ أَيْ بِكُلِّ مِنْهَاجٍ مِنْ مَنَاهِجِ الدِّينِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّرَاطِ سَبِيلُ الْحَقِّ قَوْلُهُ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، (فَإِنْ قلت) : صراط الحق واحد وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ «2» فَكَيْفَ قِيلَ بِكُلِّ صِرَاطٍ، (قلت) : صراط الحق واحد وَلَكِنَّهُ يَتَشَعَّبُ إِلَى مَعَارِفَ وَحُدُودٍ وَأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فَكَانُوا إِذَا رَأَوْا وَاحِدًا يَشْرَعُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ مَنَعُوهُ وَصَدُّوهُ انْتَهَى. وَلَا تَظْهَرُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّرَاطِ سَبِيلُ الْحَقِّ مِنْ قَوْلِهِ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا ذَكَرَ بَلِ الظَّاهِرُ التَّغَايُرُ لِعُمُومِ كُلِّ صِرَاطٍ وَخُصُوصِ سَبِيلِ اللَّهِ فَيَكُونُ بِكُلِّ صِراطٍ حقيقة في الطرق، وسَبِيلِ اللَّهِ مَجَازٌ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَالْبَاءُ فِي بِكُلِّ صِراطٍ ظَرْفِيَّةٌ نَحْوُ زَيْدٍ بِالْبَصْرَةِ أَيْ فِي كُلِّ صِرَاطٍ وَفِي الْبَصْرَةِ وَالْجُمَلُ مِنْ قَوْلِهِ تُوعِدُونَ وتَصُدُّونَ وَتَبْغُونَها أَحْوَالٌ أَيْ مُوعِدِينَ وَصَادِّينَ وَبَاغِينَ وَالْإِيعَادُ ذِكْرُ إِنْزَالِ الْمَضَارِّ بِالْمُوعَدِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُوعَدَ بِهِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مِنَ الشَّرِّ لِأَنَّ أَوْعَدَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشَّرِّ وَإِذَا ذُكِرَ تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِالْبَاءِ.
قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ: إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَذْكُرُوا مَا يُهَدِّدُوا به مع أوعدت جاؤوا بِالْبَاءِ فَقَالُوا: أَوْعَدْتُهُ بِالضَّرْبِ ولا يقولون أعدته الضَّرْبَ وَالصَّدُّ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي عَدَمِ التَّمْكِينِ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الرَّسُولِ لِيَسْمَعَ كَلَامَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنِ الْإِيعَادِ مِنَ الصَّادِّ بِوَجْهٍ مَا أَوْ عَنْ وَعْدِ الْمَصْدُودِ بِالْمَنَافِعِ عَلَى تَرْكِهِ ومَنْ آمَنَ مَفْعُولٌ بِتَصُدُّونَ عَلَى إِعْمَالِ الثَّانِي وَمَفْعُولُ تُوعِدُونَ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 16. [.....]
(2) سورة الأنعام: 6/ 153.

الصفحة 107