كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

سَبِيلِ اللَّهِ وَذَكَّرَهُ لِأَنَّ السَّبِيلَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَقِيلَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : إِلَامَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِي آمَنَ بِهِ، (قُلْتُ) : إِلَى كُلِّ صِرَاطٍ تَقْدِيرُهُ تُوعِدُونَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَصُدُّونَ عَنْهُ فَوَضَعَ الظَّاهِرَ الَّذِي هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ أَمْرِهِمْ دَلَالَةً عَلَى عِظَمِ مَا يَصُدُّونَ عَنْهُ انْتَهَى وَهَذَا تَعَسُّفٌ فِي الْإِعْرَابِ لَا يَلِيقُ بِأَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَوَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ وَعَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى أَبْعَدِ مَذْكُورٍ مَعَ إِمْكَانِ عَوْدِهِ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ الْإِمْكَانَ السَّائِغَ الْحَسَنَ الرَّاجِحَ وَجَعَلَ مَنْ آمَنَ مَنْصُوبًا بِتُوعِدُونَ فَيَصِيرُ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَلِيلٌ.
وَقَدْ قَالَ النُّحَاةُ إِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ لِقِلَّتِهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ لَلَزِمَ ذِكْرُ الضَّمِيرِ فِي الْفِعْلِ الثَّانِي وَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ وَتَصُدُّونَهُ أَوْ وَتَصُدُّونَهُمْ إِذْ هَذَا الضَّمِيرَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ إِلَّا ضَرُورَةً عَلَى قَوْلِ بَعْضِ النُّحَاةِ يُحْذَفُ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَلَامِ وَيَدُلُّ عَلَى مَنْ آمَنَ مَنْصُوبٌ بِتَصُدُّونَ الْآيَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ «1» وَلَا يُحْذَفُ مِثْلُ هَذَا الضَّمِيرِ إِلَّا فِي شِعْرٍ وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ حَذْفَهُ عَلَى قِلَّةٍ مَعَ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ الْمُضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ فَكَانَ جَدِيرًا بِالْمَنْعِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْقِيدِ الْبَعِيدِ عَنِ الفصحاحة وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَعُودَ عَلَى شُعَيْبٍ فِي قَوْلِ مَنْ رَأَى الْقُعُودَ عَلَى الطَّرِيقِ لِلرَّدِّ عَنْ شُعَيْبٍ وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ القائل وَلا تَقْعُدُوا وهو شُعَيْبٌ فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ مَنْ آمَنَ بِي وَلَا يُسَوَّغُ هُنَا أَنْ يَكُونَ التفافا لَوْ قُلْتَ: يَا هِنْدُ أَنَا أَقُولُ لَكِ لَا تُهِينِي مَنْ أُكْرِمُهُ تُرِيدُ مَنْ أَكْرَمَنِي لَمْ يَصِحَّ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ قَوْلِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً «2» فِي آلِ عِمْرَانَ.
وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِذْ مَفْعُولٌ بِهِ غَيْرُ ظَرْفٍ أَيْ وَاذْكُرُوا عَلَى جِهَةِ الشُّكْرِ وَقْتَ كَوْنِكُمْ قَلِيلًا عَدَدُكُمْ فَكَثَّرَكُمْ اللَّهُ وَوَفَّرَ عَدَدَكُمُ انْتَهَى وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَاذْكُرُوا لِاسْتِقْبَالِ اذْكُرُوا وَكَوْنِ إِذْ ظَرْفًا لِمَا مَضَى وَالْقِلَّةُ وَالتَّكْثِيرُ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْخَاصِ أَوْ إِلَى الْفَقْرِ وَالْغِنَى أَوْ إِلَى قِصَرِ الْأَعْمَارِ وَطُولِهَا أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ. قِيلَ: إِنَّ مَدْيَنَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ تَزَوَّجَ بِنْتَ لُوطٍ فَوَلَدَتْ فَرَمَى اللَّهُ فِي نَسْلِهَا بِالْبَرَكَةِ وَالنَّمَاءِ فَكَثُرُوا وَفَشَوْا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
إِذْ كُنْتُمْ أَقِلَّةً أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمْ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ انْتَهَى وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى حَذْفِ صِفَةٍ وَهِيَ أَذِلَّةٌ وَلَا إِلَى تَحْمِيلِ قَوْلِهِ فَكَثَّرَكُمْ مَعْنَى بِالْعَدَدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِلَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الذِّلَّةَ وَلَا الْكَثْرَةَ تَسْتَلْزِمُ الْعِزَّ، وَقَالَ الشاعر:
__________
(1) سورة آل عمران: 3/ 99.
(2) سورة آل عمران: 3/ 99.

الصفحة 108