كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ وَجَاءَتِ الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِشَارَةً إِلَى بُعْدِ هَلَاكِهَا وَتَقَادُمِهِ وَحَصَلَ الرَّبْطُ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى ونَقُصُّ يُحْتَمَلُ إِبْقَاؤُهُ عَلَى حَالِهِ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ وَالْمَعْنَى قَدْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَنَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَيْضًا مِنْهَا مُفَرَّقًا فِي السُّوَرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ عَنِ الْمَاضِي أَيْ تِلْكَ الْقُرى قَصَصْنَا وَالْإِنْبَاءُ هُنَا إِخْبَارُهُمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ ومآل عصيانهم، وتِلْكَ مبتدأ والْقُرى خَبَرٌ ونَقُصُّ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ نَحْوُ قَوْلِهِ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً «1» وَفِي الْإِخْبَارِ بِالْقُرَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِمَهْلِكِهَا، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ذلِكَ الْكِتابُ «2» وَفِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أُولَئِكَ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ»
وَكَقَوْلِ أُمَيَّةَ.
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قِعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ وَلَمَّا كَانَ الْخَبَرُ مُقَيَّدًا بِالْحَالِ أَفَادَ كَالتَّقْيِيدِ بِالصِّفَةِ فِي قَوْلِكَ هُوَ الرَّجُلُ الْكَرِيمُ وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ نَقُصُّ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وَأَنْ يَكُونَ خبرا والْقُرى صِفَةٌ وَمَعْنَى مِنْ التَّبْعِيضُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْبَاءً أُخَرَ لَمْ تُقَصَّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قَصَّ مَا فِيهِ عِظَةٌ وَازْدِجَارٌ وَادِّكَارٌ بِمَا جَرَى عَلَى مَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ لِيَتَّعِظَ بِذَلِكَ السَّامِعُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ لِيُؤْمِنُوا الْيَوْمَ بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلِ يَوْمِ الْمِيثَاقِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا كَانُوا لِيُخَالِفُوا عِلْمَ اللَّهِ فِيهِمْ، وَقَالَ يَمَانُ بْنُ رِئَابٍ بِمَا كَذَّبُوا أَسْلَافَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ لِقَوْلِهِ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ «3» فَالْفِعْلُ فِي لِيُؤْمِنُوا لِقَوْمٍ وَفِي بِما كَذَّبُوا لِقَوْمٍ آخَرِينَ وَقِيلَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ الْمُعْجِزَاتِ بِما كَذَّبُوا بِهِ قَبْلَهَا كَمَا قَالَ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ «4» ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مِنْ قَبْلُ يَعُودُ عَلَى الرُّسُلِ تَقْدِيرُهُ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الرُّسُلِ لَمْ يُسْلَبْ عَنْهُمُ اسْمَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بَلْ بَقُوا كَافِرِينَ مُكَذِّبِينَ كَمَا كَانُوا قَبْلَ الرُّسُلِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا عِنْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ بِمَا كَذَّبُوهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ أَوْ مِمَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَى آخِرِ أَعْمَارِهِمْ بِمَا كَذَّبُوا بِهِ أَوَّلًا حَتَّى جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ أَيِ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ مِنْ لَدُنْ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ إلى أن مالوا مُصِرِّينَ لَا يَرْعَوُونَ وَلَا تَلِينُ شَكِيمَتُهُمْ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ مَعَ تَكْرَارِ الْمَوَاعِظِ عَلَيْهِمْ وَتَتَابُعِ الْآيَاتِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَرْبَعَةَ وجوه من التأويل.
__________
(1) سورة النمل: 27/ 52.
(2) سورة البقرة: 2/ 2.
(3) سورة الذاريات: 51/ 52.
(4) سورة المائدة: 5/ 102.

الصفحة 124