كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

حَقِيقٌ عَلَيَّ قَوْلُ الْحَقِّ، فَقَالَ قَوْمٌ: ضَمَّنَ حَقِيقٌ مَعْنَى حَرِيصٍ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ وَالْفَرَّاءُ وَالْفَارِسِيُّ: عَلَيَّ بِمَعْنَى الْبَاءِ كَمَا أَنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى عَلَى فِي قَوْلِهِ وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ «1» أَيْ عَلَى كُلِّ صِرَاطٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ كَمَا تَقُولُ فُلَانٌ حَقِيقٌ بِهَذَا الْأَمْرِ وَخَلِيقٌ بِهِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّوْجِيهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ بِأَنْ لَا أَقُولَ وَضَعَ مَكَانَ عَلَى الْبَاءَ، قَالَ الْأَخْفَشُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْمُطَّرِدِ لَوْ قُلْتَ ذَهَبْتُ عَلَى زَيْدٍ تُرِيدُ بِزَيْدٍ لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي الْمَشْهُورَةِ إِشْكَالٌ وَلَا يَخْلُو مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ يَكُونَ مِمَّا يُقْلَبُ مِنَ الْكَلَامِ لَا مِنَ الْإِلْبَاسِ كَقَوْلِهِ:
وَتَشْقَى الرِّمَاحُ بِالضَّيَاطِرَةِ الْحُمْرِ وَمَعْنَاهُ وَتَشْقَى الضَّيَاطِرَةُ بِالرِّمَاحِ انْتَهَى هَذَا الْوَجْهُ وَأَصْحَابُنَا يَخُصُّونَ الْقَلْبَ بِالشِّعْرِ وَلَا يُجِيزُونَهُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقِرَاءَةُ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَعْنَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثَّانِي أَنَّ مَا لَزِمَكَ لَزِمْتَهُ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْحَقِّ حَقِيقًا عَلَيْهِ كَانَ هُوَ حَقِيقًا عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ أَيْ لَازِمًا لَهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثَّالِثُ أَنْ يُضَمَّنَ حَقِيقٌ مَعْنَى حَرِيصٍ تَضْمِينَ هَيَّجَنِي مَعْنَى ذَكَّرَنِي فِي بَيْتٍ الْكِتَابَ انْتَهَى يَعْنِي بِالْكِتَابِ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ وَالْبَيْتُ:
إِذَا تَغَنَّى الْحَمَامُ الْوُرْقُ هَيَّجَنِي ... وَلَوْ تَسَلَّيْتُ عَنْهَا أُمَّ عَمَّارِ
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالرَّابِعُ وَهُوَ الْأَوْجَهُ وَإِلَّا دَخَلَ فِي نُكَتِ الْقُرْآنِ أَنْ يَغْرَقَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالصِّدْقِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ لَا سِيَّمَا
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ قَالَ لَمَّا قَالَ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ كَذَبْتَ فَيَقُولُ أَنَا حَقِيقٌ عَلَيَّ قَوْلُ الْحَقِّ أَيْ وَاجِبٌ عَلَيَّ قَوْلُ الْحَقِّ أَنْ أَكُونَ أَنَا قَائِلَهُ وَالْقَائِمَ بِهِ وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِمِثْلِي نَاطِقًا بِهِ
انْتَهَى وَلَا يَتَّضِحُ هَذَا الْوَجْهُ إِلَّا إِنْ عَنَى أَنَّهُ يَكُونُ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ صِفَةً كَمَا تَقُولُ أَنَا على قول الحق أي طَرِيقِي وَعَادَتِي قَوْلُ الْحَقِّ، وَقَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ حَقِيقٌ مِنْ نَعْتِ الرَّسُولِ أَيْ رَسُولٌ حَقِيقٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُرْسِلْتُ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَاضِحٌ وَقَدْ غَفَلَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَرْبَابِ اللُّغَةِ عَنْ تَعْلِيقِ عَلى بِرَسُولٍ وَلَمْ يَخْطُرْ لَهُمْ تَعْلِيقُهُ إِلَّا بِقَوْلِهِ حَقِيقٌ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ فِيهِ تَنَاقُضٌ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ قَدَّرَ أَوَّلًا الْعَامِلَ فِي عَلى أُرْسِلْتُ، وَقَالَ آخَرُ: إِنَّهُمْ غَفَلُوا عَنْ تَعْلِيقِ عَلى بِرَسُولٍ فَأَمَّا هَذَا الْآخَرُ فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ رَسُولًا قَدْ وُصِفَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ مَعْمُولَهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وأما التقدير
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 86.

الصفحة 128