كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

وَإِنْ تُصِبْهُمْ وَهَذَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مَخْصُوصٌ بِالشِّعْرِ أَعْنِي أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ مُضَارِعًا وَفِعْلُ الْجَزَاءِ مَاضِيَ اللَّفْظِ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
من يكدني بسيىء كُنْتُ مِنْهُ ... كَالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ وَالْوَرِيدِ
وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يُجَوِّزُهُ فِي الْكَلَامِ وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنْ مُجَاهِدًا قرأ تشاءموا مكان يَطَّيَّرُوا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّفْسِيرِ لَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ الْمُصْحَفِ.
أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طائِرُهُمْ مَا يُصِيبُهُمْ أَيْ مَا طَارَ لَهُمْ فِي الْقَدَرِ مِمَّا هُمْ لا قوه وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ سُمِّيَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَدَرِ لِلْإِنْسَانِ طَائِرًا لَمَّا كَانَ يُعْتَقَدُ أَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهُ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ فِي الطَّائِرِ فَهِيَ لَفْظَةٌ مُسْتَعَارَةٌ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ سَبَبُ خَيْرِهِمْ وَشَرِّهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حُكْمُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَشَاءُ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وَلَيْسَ شُؤْمُ أَحَدِهِمْ وَلَا يُمْنُهُ بِسَبَبٍ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَلَا إِنَّمَا سَبَبُ شُؤْمِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ عَمَلُهُمُ الْمَكْتُوبُ عِنْدَهُ يَجْرِي عَلَيْهِمْ مَا يَسُوءُهُمْ لِأَجْلِهِ وَيُعَاقَبُونَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِمَا وَعَدَهُمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها «2» الْآيَةَ وَلَا طَائِرَ أَشْأَمُ مِنْ هَذَا، وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَلَا إِنَّمَا طَيْرُهُمْ وَحَكَمَ بِنَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ أَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُمْ عَلِمَ كَمُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن كَوْنَ الضَّمِيرِ فِي طائِرُهُمْ لِضَمِيرِ الْعَالَمِ وَيَجِيءُ تَخْصِيصُ الْأَكْثَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيُحْتَمَلُ أن يريد وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَيْسَ قَرِيبًا أَنْ يُعْلَمَ لِانْغِمَارِهِمْ فِي الْجَهْلِ وَعَلَى هَذَا فِيهِمْ قَلِيلٌ مُعَدٌّ لِأَنْ يَعْلَمَ لَوْ وَفَّقَهُ اللَّهُ انْتَهَى، وَهُمَا احْتِمَالَانِ بَعِيدَانِ وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُهُ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ الْجَمْعُ وَتَجُوزُ فِي الْعِبَارَةِ.
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ الضَّمِيرُ فِي وَقالُوا عَائِدٌ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ لم يزدهم الأخذ بالجذوب وَنَقْصِ الثَّمَرَاتِ إِلَّا طُغْيَانًا وَتَشَدُّدًا فِي كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَلَمْ يَكْتَفُوا بِنِسْبَةِ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى وَاجَهُوهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِمَا أَتَى مِنَ الْآيَاتِ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَأَتَوْا بِمَهْمَا الَّتِي تَقْتَضِي الْعُمُومَ ثُمَّ فَسَّرُوا بِآيَةٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ فِي تَسْمِيَتِهِمْ ذَلِكَ آيَةً كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ «3» وتسميه لَهَا بِآيَةٍ أَيْ عَلَى زَعْمِكَ وَلِذَلِكَ عَلَّلُوا الْإِتْيَانَ بِقَوْلِهِمْ لِتَسْحَرَنا بِها وَبَالَغُوا فِي انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ بِأَنْ
__________
(1) سورة النساء: 4/ 78. [.....]
(2) سورة غافر: 40/ 46.
(3) سورة النساء: 4/ 157.

الصفحة 148