كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

كَالزَّرْعِ وَالْحَصْدِ وَالتِّجَارَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ وَسَمَّاهَا مَعَايِشَ لِأَنَّهَا وَصْلَةٌ إِلَى مَا يُعَاشُ بِهِ، وَقِيلَ الْمَعَائِشُ وُجُوهُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ إِمَّا يُحْدِثُهُ اللَّهُ ابْتِدَاءً كَالثِّمَارِ أَوْ مَا يُحْدِثُهُ بِطَرِيقِ اكْتِسَابٍ مِنَ الْعَدُوِّ وَكِلَاهُمَا يُوجِبُ الشُّكْرَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَعايِشَ بِالْيَاءِ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْيَاءَ فِي الْمُفْرَدِ هِيَ أَصْلٌ لَا زَائِدَةٌ فَتُهْمَزُ وَإِنَّمَا تُهْمَزُ الزَّائِدَةُ نَحْوُ: صَحَائِفُ فِي صَحِيفَةٍ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ: مَعَائِشَ بِالْهَمْزَةِ وَلَيْسَ بِالْقِيَاسِ لَكِنَّهُمْ رَوَوْهُ وَهُمْ ثِقَاتٌ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَشَذَّ هَذَا الْهَمْزُ، كَمَا شذ في منائر جَمْعِ مَنَارَةٍ وَأَصْلُهَا مَنْوَرَةٌ وَفِي مَصَائِبَ جَمْعِ مُصِيبَةٍ وَأَصْلُهَا مُصْوِبَةٌ وَكَانَ الْقِيَاسُ مَنَاوِرَ وَمَصَاوِبَ. وَقَدْ قَالُوا مَصَاوِبَ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا قَالُوا فِي جَمْعِ مَقَامَةٍ مَقَاوِمَ وَمَعُونَةٍ مَعَاوِنَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَمِيعُ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ تَزْعُمُ أَنَّ هَمْزَهَا خَطَأٌ وَلَا أَعْلَمُ لَهَا وَجْهًا إِلَّا التَّشْبِيهَ بِصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ وَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: أَصْلُ أَخْذِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَنْ نَافِعٍ وَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي مَا الْعَرَبِيَّةُ وَكَلَامُ العرب التصحيح فِي نَحْوِ هَذَا انْتَهَى. وَلَسْنَا مُتَعَبِّدِينَ بِأَقْوَالِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رُبَّمَا هَمَزَتِ الْعَرَبُ هَذَا وَشَبَهَهُ يتوهّمون أنها فعلية فَيُشَبِّهُونَ مُفْعِلَةً بِفَعِيلَةٍ انْتَهَى. فَهَذَا نَقْلٌ مِنَ الْفَرَّاءِ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا يَهْمِزُونَ هَذَا وَشَبَهَهُ وَجَاءَ به نقل الْقِرَاءَةِ الثِّقَاتُ ابْنُ عَامِرٍ وَهُوَ عَرَبِيٌّ صُرَاحٌ وَقَدْ أَخَذَ الْقُرْآنَ عَنْ عُثْمَانَ قَبْلَ ظُهُورِ اللَّحْنِ وَالْأَعْرَجُ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ قُرَّاءِ التَّابِعِينَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْعِلْمِ بِالْمَكَانِ الَّذِي قَلَّ أَنْ يُدَانِيَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، وَالْأَعْمَشُ وَهُوَ مِنَ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَالْحِفْظِ وَالثِّقَةِ بِمَكَانٍ، وَنَافِعٌ وَهُوَ قَدْ قَرَأَ عَلَى سَبْعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ وَهُمْ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالضَّبْطِ وَالثِّقَةِ بِالْمَحَلِّ الَّذِي لَا يُجْهَلُ، فَوَجَبَ قَبُولُ مَا نَقَلُوهُ إِلَيْنَا وَلَا مُبَالَاةَ بِمُخَالَفَةِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَأَمَّا قَوْلُ المازني أصل أخذ هذه الْقِرَاءَةِ عَنْ نَافِعٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهَا نُقِلَتْ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَعَنِ الْأَعْرَجِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ نَافِعًا لَمْ يَكُنْ يَدْرِي مَا الْعَرَبِيَّةُ فَشَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا الْعَرَبِيَّةُ وَهِيَ هَذِهِ الصِّنَاعَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ فَهُوَ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إِذْ هُوَ فَصِيحٌ مُتَكَلِّمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ نَاقِلٌ لِلْقِرَاءَةِ عَنِ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ وَكَثِيرٌ من هولاء النُّحَاةِ يُسِيئُونَ الظَّنَّ بِالْقُرَّاءِ ولا يجوز لهم وَإِعْرَابُ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ كَإِعْرَابِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ.
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ لَمَّا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْسِيمِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى طَائِعٍ وَعَاصٍ فَالطَّائِعُ مُمْتَثِلٌ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُجْتَنِبٌ مَا نَهَى عَنْهُ وَالْعَاصِي بِضِدِّهِ أَخَذَ يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ كَانَ فِي الْبَدْءِ الْأَوَّلِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ بالسجدة فَامْتَثَلَ مَنِ امْتَثَلَ وَامْتَنَعَ مَنِ امْتَنَعَ، وَأَنَّهُ أَمَرَ تَعَالَى آدَمَ وَنَهَى فَحَكَى عَنْهُ مَا

الصفحة 15