كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

يَأْتِي خَبَرُهُ فَنَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى مَوْضِعِ الِاعْتِبَارِ وَإِبْرَازِ الشَّيْءِ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ إِلَى الْوُجُودِ وَالتَّصْوِيرِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْغَرِيبَةِ الشَّكْلِ الْمُتَمَكِّنَةِ مِنْ بَدَائِعِ الصَّانِعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لجميع بني آدم ويكون عَلَى قَوْلِهِ ثُمَّ قُلْنَا إما أَنْ تَكُونَ فِيهِ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَلَمْ تُرَتِّبْ وَيَكُونُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ أَوْ تَكُونُ ثُمَّ فِي ثُمَّ قُلْنا لِلتَّرْتِيبِ في الأخبار لا في الزَّمَانِ وَهَذَا أَسْهَلُ مَحْمَلٍ فِي الْآيَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ فِي الزَّمَانِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ، فَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ آدَمُ وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ بَنُوهُ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْخِطَابُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ لِآدَمَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُخَاطِبُ الْعَظِيمَ الْوَاحِدَ بِخِطَابِ الْجَمْعِ، وَقِيلَ الْخِطَابُ فِي الْأُولَى لِآدَمَ وَفِي الثَّانِيَةِ لِذُرِّيَّتِهِ فَتَحْصُلُ الْمُهْلَةُ بَيْنَهُمَا وثُمَّ الثَّالِثَةُ لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ، وَرَوَى هَذَا الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: خَلَقْنَاكُمْ لِآدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ لِبَنِيهِ يَعْنِي فِي صُلْبِهِ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ ثُمَّ قُلْنَا فَيَكُونُ التَّرْتِيبُ وَاقِعًا عَلَى بَابِهِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ لِبَنِي آدَمَ، فَقِيلَ: الْخِطَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ مَحَلُّ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ فَرَوَى الْحَارِثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَلَقْنَاكُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي الْأَرْحَامِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنْهُ خَلَقْنَاكُمْ فِي أَصْلَابِ الرَّجُلِ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ، وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَعْمَشُ، وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ خَلَقْنَاكُمْ نُطَفًا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَتَرَائِبِ النِّسَاءِ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ عِنْدَ اجْتِمَاعِ النُّطَفِ فِي الْأَرْحَامِ، وَقَالَ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ حَاكِيًا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ خَلَقْنَاكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ وَصَوَّرْنَاكُمْ فِيهَا بَعْدَ الْخَلْقِ شَقَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ قُلْنا للترتيب في الإخبار، وَقِيلَ الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ إِلَّا أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ وَلَقَدْ خَلَقْنَا أَرْوَاحَكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَا أَجْسَامَكُمْ حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْمُعْتَمَدِ وَيَكُونُ ثُمَّ فِي ثُمَّ قُلْنا لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ وَلَقَدْ خَلَقْنَا أَبَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَا أَبَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا فَثُمَّ عَلَى هَذَا لِلتَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ وَالْمُهْلَةِ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهَا، وَقِيلَ هُوَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ يُخَاطِبُ الْعَيْنَ وَيُرَادُ بِهِ الْغَيْرُ فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ وَالْمُرَادُ آدَمُ كَقَوْلِهِ وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ «1» فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ «2» وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً «3» هُوَ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْمُرَادُ أَسْلَافُهُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا افْتَخَرَتْ يَوْمًا تَمِيمٌ بِقَوْسِهَا ... وَزَادَتْ عَلَى مَا وَطَّدَتْ مِنْ مَنَاقِبِ
فَأَنْتُمْ بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُمْ ... عُرُوشَ الَّذِينَ اسْتَرْهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 49.
(2) سورة البقرة: 2/ 55.
(3) سورة البقرة: 2/ 72.

الصفحة 16