كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي «1» ، وَقِيلَ إِنَّمَا عَبَدَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ لِقَوْلِهِ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ «2» وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْعَمَلِ كَقَوْلِهِ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً «3» أَيْ عَمِلَتْ وَصَنَعَتْ فَالْمُتَّخِذُ إِنَّمَا هُوَ السَّامِرِيُّ وَاسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظُفَرَ مِنْ قَرْيَةٍ تُسَمَّى سَامِرَةَ وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى قَوْمِ مُوسَى مَجَازًا كَمَا قَالُوا بَنُو تَمِيمٍ قَتَلُوا فُلَانًا وَإِنَّمَا قَتَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلِكَوْنِهِمْ رَاضِينَ بِذَلِكَ وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ بَعْدِ مُضِيِّهِ للمناجاة ومِنْ حُلِيِّهِمْ متعلق باتخذ وَبِهَا يَتَعَلَّقُ مِنْ بَعْدِهِ وَإِنْ كَانَا حَرْفَيْ جَرٍّ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَجَازَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَدْلُولَيْهِمَا لِأَنَّ مِنَ الْأَوْلَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالثَّانِيَةَ لِلتَّبْعِيضِ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُلِيِّهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً أَيْ عِجْلًا كَائِنًا مِنْ حُلِيِّهِمْ.
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ مِنْ حُلِيِّهِمْ بِكَسْرِ الْحَاءِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ اللَّامِ كَمَا قَالُوا: عَصَى، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ وَطَلْحَةَ وَالْأَعْمَشِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَهُوَ جَمْعُ حَلْيٍ نَحْوُ ثَدْيٍ وَثُدِيٍّ وَوَزْنُهُ فُعُولٌ اجْتَمَعَتْ يَاءٌ وَوَاوٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا لِتَصِحَّ الْيَاءُ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ مِنْ حُلِيِّهِمْ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ مُفْرَدٌ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ أَوِ اسْمُ جِنْسٍ مُفْرَدُهُ حَلْيَةٌ كَتَمْرٍ وَتَمْرَةٍ، وَإِضَافَةُ الْحُلِيِّ إِلَيْهِمْ إِمَّا لِكَوْنِهِمْ مَلَكُوهُ مِنْ مَا كَانَ عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ حِينَ غَرِقُوا وَلَفَظَهُمُ الْبَحْرُ فَكَانَ كَالْغَنِيمَةِ وَلِذَلِكَ أُمِرَ هَارُونُ بِجَمْعِهِ حَتَّى يَنْظُرَ مُوسَى إِذَا رَجَعَ فِي أَمْرِهِ أَوْ مَلَكُوهُ إِذْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي اغْتَصَبَهَا الْقِبْطُ بِالْجِزْيَةِ الَّتِي كَانُوا وَضَعُوهَا عَلَيْهِمْ فَتَحَيَّلَ بَنُو إسرائيل عل اسْتِرْجَاعِهَا إِلَيْهِمْ بِالْعَارِيَةِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ لَكِنْ تَصَرَّفَتْ أَيْدِيهِمْ فِيهِ بِالْعَارِيَةِ فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ.
رَوَى يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُمُ اسْتَعَارُوا الْحُلِيَّ مِنَ الْقِبْطِ لِعُرْسٍ، وَقِيلَ: لِيَوْمِ زِينَةٍ وَلَمَّا هَلَكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بَقِيَ الْحُلِيُّ مَعَهُمْ وَكَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ وَأَخَذَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي بَيْعِهِ وَتَمْحِيقِهِ، فَقَالَ السَّامِرِيُّ لِهَارُونَ: إِنَّهُ عَارِيَةٌ وَلَيْسَ لَنَا فَأَمَرَ هَارُونُ مُنَادِيًا بِرَدِّ الْعَارِيَةِ لِيَرَى فِيهَا مُوسَى رَأْيَهُ إِذَا جَاءَ فَجَمَعَهُ وَأَوْدَعَهُ هَارُونُ عِنْدَ السَّامِرِيِّ وَكَانَ صَائِغًا فَصَاغَ لَهُمْ صُورَةَ عِجْلٍ مِنَ الْحُلِيِّ، وَقِيلَ: مَنَعَهُمْ مِنْ رَدِّ الْعَارِيَةِ خَوْفُهُمْ أَنْ يَطَّلِعَ الْقِبْطُ عَلَى سُرَاهُمْ إِذْ كَانَ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى أَنْ يُسْرِيَ بِهِمْ
، وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ الْقَرِيبُ الْوِلَادَةِ وَمَعْنَى جَسَداً جُثَّةً جَمَادًا، وَقِيلَ: بَدَنًا بِلَا رَأْسٍ ذَهَبًا مُصْمَتًا، وَقِيلَ: صَنَعَهُ مُجَوَّفًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
__________
(1) سورة الأعراف: 1517.
(2) سورة الأعراف: 7/ 159.
(3) سورة العنكبوت: 29/ 41.

الصفحة 176