كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلْقَسَمِ وَمَا مصدرية ولذلك تلقيت الالية بِقَوْلِهِ: لَأَقْعُدَنَّ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِالْإِغْوَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ تَكْلِيفًا مِنْ أَحْسَنِ أَفْعَالِ اللَّهِ لِكَوْنِهِ تَعْرِيضًا لِسَعَادَةِ الْأَبَدِ، فَكَانَ جَدِيرًا أَنْ يُقْسِمَ بِهِ انْتَهَى، وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِ أَيْ بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ وَعَبَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْهَا بِأَنْ يُرَادَ بِهَا مَعْنَى الْمُجَازَاةِ قَالَ: كَمَا تَقُولُ فَبِإِكْرَامِكَ لِي يَا زَيْدُ لَأُكْرِمَّنَكَ قَالَ وَهَذَا أَلْيَقٌ بِالْقِصَّةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ تَعَلَّقَتِ الْبَاءُ فَإِنَّ تَعْلِيقَهَا بِلَأَقْعُدَنَّ تَصُدُّ عَنْهُ لَامُ الْقَسَمِ لَا تَقُولُ وَاللَّهِ بِزَيْدٍ لَأَمُرَنَّ (قُلْتُ) : تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ فَبِما أَغْوَيْتَنِي أَقْسَمَ بِاللَّهِ لَأَقْعُدَنَّ أَيْ بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ أُقْسِمُ انْتَهَى، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ اللَّامَ تَصُدُّ عَنْ تَعَلُّقِ الْبَاءِ بِلَأَقْعُدَنَّ لَيْسَ حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَلْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَقِيلَ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ كَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أَغْوَاهُ وَقَالَ بِأَيِّ شَيْءٍ أَغْوَيْتَنِي ثُمَّ ابْتَدَأَهُ مُقْسِمًا فَقَالَ: لَأَقْعُدُنَّ لَهُمْ وَضَعُفَ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَذَلِكَ شَاذٌّ أَوْ ضَرُورَةٌ نَحْوُ قَوْلِهِمْ عَمَّا تَسْأَلُ فَهَذَا شَاذٌّ وَالضَّرُورَةُ كَقَوْلِهِ:
عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمُ وَمَعْنَى أَغْوَيْتَنِي أَضْلَلْتَنِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرُونَ أَوْ لَعَنْتَنِي قَالَهُ الْحَسَنُ أَوْ أَهْلَكْتَنِي قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوْ خَيَّبْتَنِي قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَقِيلَ: أَلْقَيْتَنِي غَاوِيًا، وَقِيلَ: سَمَّيْتَنِي غَاوِيًا لِتَكَبُّرِي عَنِ السُّجُودِ لِمَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَقِيلَ: جَعَلْتَنِي فِي الْغَيِّ وَهُوَ الْعَذَابُ، وَقِيلَ: قَضَيْتَ عَلَيَّ مِنَ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَقِيلَ: أَدْخَلْتَ عَلَيَّ دَاءَ الْكِبْرِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَبِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ وَهُوَ تَكْلِيفُهُ إِيَّاهُ مَا وَقَعَ بِهِ فِي الْغَيِّ كَمَا ثَبَتَتِ الْمَلَائِكَةُ مَعَ كَوْنِهِمْ أَفْضَلَ مِنْهُ وَمِنْ آدَمَ نَفْسًا وَمَنَاصِبَ وَعَنِ الْأَصَمِّ أَمَرْتَنِي بِالسُّجُودِ فَحَمَلَنِي الْأَنَفُ عَلَى مَعْصِيَتِكَ وَالْمَعْنَى فَبِسَبَبِ وُقُوعِي فِي الْغَيِّ لِأَجْتَهِدَنَّ فِي إِغْوَائِهِمْ حَتَّى يَفْسَدُوا بِسَبَبِي كَمَا فَسَدْتُ بِسَبَبِهِمْ انْتَهَى، وَهُوَ وَالْأَصَمُّ فَسَّرَا عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ فِي نَفْيِ نِسْبَةِ الْإِغْوَاءِ حَقِيقَةً وَهُوَ الْإِضْلَالُ إِلَى اللَّهِ وَكَذَلِكَ مَنْ فَسَّرَ أَغْوَيْتَنِي مَعْنَى أَلْفَيْتَنِي غَاوِيًا وَهُوَ فِرَارٌ مِنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ إِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ نَفْسًا وَمَنَاصِبَ هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: قَاتَلَ اللَّهُ الْقَدَرِيَّةَ لَإِبْلِيسُ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْهُمْ يريد في أنه على أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي وَيُضِلُّ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ كِبَارِ الْفُقَهَاءِ يُرْمَى بِالْقَدَرِ فَجَلَسَ إِلَى طَاوُسٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ لَهُ طَاوُسٌ: تَقُومُ أَوْ تُقَامُ فَقَامَ الرَّجُلُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ فَقِيهٌ، فَقَالَ: إِبْلِيسُ أَفْقَهُ مِنْهُ قَالَ: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي، وَهَذَا يَقُولُ أَنَا أُغْوِي نَفْسِي وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مِنْ تَكَاذِيبِ الْمُجْبِرَةِ وَذَكَرَهَا ثُمَّ قَالَ كَلَامًا قَبِيحًا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَعَبَّرَ بِالْقُعُودِ عَنِ الثُّبُوتِ

الصفحة 20