كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. الْعَوْدُ يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى شَيْءٍ سَابِقٍ وَلَا يَكُونُ الْكُفْرَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْفَصِلُوا عَنْهُ فَالْمَعْنَى عَوْدُهُمْ إِلَى مَا أَمْكَنَ انْفِصَالُهُمْ مِنْهُ وَهُوَ قِتَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ وَإِنْ يَعُودُوا إِلَى الِارْتِدَادِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَبِهِ فَسَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ يَعُودُوا وَاحْتَجَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا أَسْلَمَ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ الْمَتْرُوكَةِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ وَقَبْلَهَا وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ لَمْ تَبْقَ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لَا حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالظَّاهِرُ دُخُولُ الزِّنْدِيقِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ لَا تُقْبَلُ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: التَّوْحِيدُ لَا يَعْجِزُ عَنْ هَدْمِ مَا قَبْلَهُ مِنْ كُفْرٍ فَلَا يَعْجِزُ عَنْ هَدْمِ مَا بَعْدَهُ مِنْ ذَنْبٍ وَجَوَابُ الشَّرْطِ قالوا: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَابِ وَالتَّقْدِيرُ وَإِنْ يَعُودُوا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَأَهْلَكْنَاهُمْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فِي أَنَّا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَأَهْلَكْنَاهُمْ بِتَكْذِيبِ أَنْبِيَائِهِمْ وكفرهم ويحتمل سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أَنْ يُرَادَ بِهَا سُنَّةُ الَّذِينَ حَاقَ بِهِمْ مَكْرُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَسُنَّةُ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَدُمِّرُوا فَلْيَتَوَقَّعُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَتَخْوِيفُهُمْ بِقِصَّةِ بَدْرٍ أَشَدُّ إِذْ هِيَ قَرِيبَةٌ مُعَايِنَةٌ لَهُمْ وَعَلَيْهَا نَصَّ السُّدِّيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَالْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْمَعْنَى فَقَدْ عَايَنْتُمْ قِصَّةَ بَدْرٍ وَسَمِعْتُمْ مَا حَلَّ بهم.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُنَا زِيَادَةُ كُلُّهُ تَوْكِيدًا لِلدِّينِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَيَكُونُ بِرَفْعِ النُّونِ وَالْجُمْهُورُ بِنَصْبِهَا.
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْكُفْرِ وَمَعْنَى بَصِيرٌ بِإِيمَانِهِمْ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَيُثِيبُهُمْ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ وَسَلَّامُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِمَنْ أُمِرُوا بِالْمُقَاتَلَةِ أَيْ بِمَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَالدُّعَاءِ إِلَى دينه يصير يُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ.
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. أَيْ مُوَالِيكُمْ وَمُعِينُكُمْ

الصفحة 319