كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

حَضَّ تَعَالَى عَلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ جِهَادٍ وَغَيْرِهِ وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَحْمِلُ وَاحِدٌ الْجَمَاعَةَ عَلَى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَجَهَّزَ عُثْمَانُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ بِأَلْفِ دِينَارٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جَزَاؤُهُ وَثَوَابُهُ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، وَقِيلَ هَذِهِ التَّوْفِيَةُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا أَنْفَقُوا مَعَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ.
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. جَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى الْآخَرِ مَالَ إِلَيْهِ وَجَنَحَتِ الْإِبِلُ مَالَتْ أَعْنَاقُهَا فِي السَّيْرِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
إِذَا مَاتَ فَوْقَ الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ رُوحَهُ ... بِذِكْرَاكَ وَالْعِيسُ الْمَرَاسِيلُ جُنَّحُ
وَجَنَحَ اللَّيْلُ أَقْبَلَ وَأَمَالَ أَطْنَابَهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ طُيُورًا تَتْبَعُ الْجَيْشَ:
جَوَانِحُ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ ... إِذَا مَا الْتَقَى الْجَيْشَانِ أَوَّلُ غَالِبِ
وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَضْلَاعِ جَوَانِحُ لِأَنَّهَا مَالَتْ عَلَى الْحَشْوَةِ وَمِنْهُ الْجَنَاحُ لِمَيْلِهِ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: جَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى فُلَانٍ وَجَنَحَ لَهُ إِذَا تَابَعَهُ وَخَضَعَ لَهُ وَالضَّمِيرُ فِي جَنَحُوا عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ وَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَقِيلَ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ، وَقِيلَ عَلَى قَوْمٍ سَأَلُوا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَجَنَحَ يَتَعَدَّى بِإِلَى وَبِاللَّامِ وَالسَّلْمُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. فَقِيلَ: التَّأْنِيثُ لُغَةٌ، وَقِيلَ عَلَى مَعْنَى الْمُسَالَمَةِ، وَقِيلَ حَمْلًا عَلَى النَّقِيضِ وَهُوَ الْحَرْبُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَفْنَيْتُ فِي الْحَرْبِ آلَاتِهَا ... وَعَدَّدْتُ لِلسَّلْمِ أَوْزَارَهَا
وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ فتح السِّينِ وَكَسْرِهَا وَالسَّلْمُ الصُّلْحُ لُغَةً، فَقَالَ قَتَادَةُ هِيَ مُوَادَعَةُ الْمُشْرِكِينَ وَمُهَادَنَتُهُمْ وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَإِنْ رَآهُ مَصْلَحَةً فَعَلَ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مَعْتِبٍ سَأَلُوا الْمُوَادَعَةَ فَأَمْرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ:
قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: أَدَاءُ الْجِزْيَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: السَّلْمُ الْإِسْلَامُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ بِقَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَرَى فِيهِ الْإِمَامُ صَلَاحَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِنْ حَرْبٍ أَوْ سَلْمٍ وَلَيْسَ بِحَتْمٍ أَنْ يُقَاتِلُوا أَبَدًا أَوْ يُجَابُوا إِلَى الْهُدْنَةِ أَبَدًا، وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعَقِيلِيُّ فَاجْنَحْ بِضَمِّ النُّونِ وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: الْقِيَاسُ فِي فِعْلِ اللَّازِمِ ضَمُّ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِي الْمُضَارِعِ وَهِيَ أَقْيَسُ مِنْ يَفْعِلُ بِالْكَسْرِ وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَلَا يُبَالِي بِهِمْ وَإِنْ أَبَطَنُوا الْخَدِيعَةَ فِي

الصفحة 346