كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ... وَلَا سَابِقًا شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيًا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ جَائِيًا إِلَيْهِ لَا يَسْبِقُهُ وَالَّذِي تُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ مُنْقَطِعٌ مِنَ الْجَوَابِ عَلَى سَبِيلِ اسْتِئْنَافِ إخبار أي وهم لَا يَسْتَقْدِمُونَ الْأَجَلَ أَيْ لَا يَسْبِقُونَهُ وَصَارَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَ الْأَجَلَ وَلَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ.
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. هَذَا الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ. قِيلَ: هُوَ فِي الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: هُوَ مُرَاعًى بِهِ وَقْتَ الْإِنْزَالِ وَجَاءَ بِصُورَةِ الِاسْتِقْبَالِ لِتَقْوَى الْإِشَارَةُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي إِمَّا تَأْكِيدٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا لَمْ يُجِزْ دُخُولَ النُّونِ الثَّقِيلَةِ انْتَهَى، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يُجِيزُ ذَلِكَ وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَمَنِ اتَّقى فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْ شُرْطِيَّةً وَجَوَابُهُ فَلا خَوْفٌ وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مُسْتَقِلَّةً بِجَوَابِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً فَتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا مَجْمُوعُهُمَا هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ وَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِالْكَلَامِ التَّقْسِيمَ وَجُعِلَ الْقِسْمَانِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ أَيْ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ فَالْمُتَّقُونَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَالْمُكَذِّبُونَ أَصْحَابُ النَّارِ فَثَمَرَةُ إِتْيَانِ الرُّسُلِ وَفَائِدَتِهِ هَذَا وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ سَبْقَ الْإِيمَانِ إِذِ لَا يَنْشَأُ عَنْهُ إِلَّا الانهماك والإفساد وقابل الْإِصْلَاحُ بِالِاسْتِكْبَارِ لِأَنَّ إِصْلَاحَ الْعَمَلِ مِنْ نَتِيجَةِ التَّقْوَى وَالِاسْتِكْبَارُ مِنْ نَتِيجَةِ التَّكْذِيبِ وَهُوَ التَّعَاظُمُ فَلَمْ يَكُونُوا ليتّبعوا الرسل فيما جاؤوا بِهِ وَلَا يَقْتَدُوا بِمَا أُمِرُوا بِهِ لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِالشَّيْءِ نَأَى بِنَفْسِهِ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَاتَانِ حَالَتَانِ تَعُمُّ جَمِيعَ مَنْ يَصُدُّ عَنْ رِسَالَةِ الرَّسُولِ إِمَّا أَنْ يُكَذِّبَ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ كَذَّبَ وَإِمَّا أَنْ يَسْتَكْبِرَ فَيُكَذِّبَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُصَمِّمٍ فِي اعْتِقَادِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَهَذَا نَحْوُ الْكُفْرُ عِنَادٌ انْتَهَى، وَتَضَمَّنَتِ الْجُمْلَتَانِ حَذْفَ رَابِطٍ وَتَقْدِيرُهُ فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا مِنْكُمْ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ فَلا خَوْفٌ وأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الْجُمْلَتَانِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْأَعْرَجُ إِمَّا تَأْتِيَنَّكُمْ بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ ويَقُصُّونَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى إِذْ ذَاكَ إِذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ تَقُصُّ.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ لَمَّا ذَكَرَ الْمُكَذِّبِينَ ذَكَرَ أَسْوَأَ حَالًا مِنْهُمْ وَهُوَ مَنْ يَفْتَرِي الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَذَكَرَ أَيْضًا مَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَلَا

الصفحة 46