كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

وَالْأَحْكَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَقَلُّ عِلْمًا بِالسُّنَنِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْجَفَاءَ وَالْقَسْوَةَ فِي الْفَدَّادِينَ»
وَاللَّهُ عَلِيمٌ يَعْلَمُ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أهل الوبر والمدبر، حَكِيمٌ فِيمَا يُصِيبُ بِهِ مُسِيئَهُمْ وَمُحْسِنَهُمْ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ.
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابِ أَسَدٍ، وَغَطَفَانَ، وَتَمِيمٍ، كَانُوا يَتَّخِذُونَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَنِ الصَّدَقَاتِ. وَقِيلَ: مِنَ الزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا هِيَ إِلَّا جِزْيَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْجِزْيَةِ. وَقِيلَ: كُلُّ نَفَقَةٍ لَا تَهْوَاهَا أَنْفُسُهُمْ وَهِيَ مَطْلُوبَةٌ شَرْعًا، وَهُوَ مَا يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُنْفِقُ إِلَّا تَقِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرِيَاءً، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءِ الْمَثُوبَةِ عِنْدَهُ.
فَعَلَ هَذَا الْمَغْرَمُ إِلْزَامُ مَا لَا يَلْزَمُ. وَقِيلَ: الْمَغْرَمُ الْغُرْمُ وَالْخُسْرُ، وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَقَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْمَغْرَمُ مَا لَزَمَ أَصْحَابَهُ وَالْغَرَامُ اللَّازِمُ، وَمِنْهُ الْغَرِيمُ لِلُزُومِهِ وَإِلْحَاحِهِ. وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ. وَالدَّوَائِرُ: هِيَ الْمَصَائِبُ الَّتِي لَا مُخَلِّصَ مِنْهَا، تُحِيطُ بِهِ كَمَا تُحِيطُ الدَّائِرَةُ. وَقِيلَ: تَرَبُّصُ الدَّوَائِرِ هُنَا مَوْتُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظُهُورِ الشِّرْكِ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا
وَتَرَبُّصُ الدَّوَائِرِ لِيَخْلُصُوا مِنْ إِعْيَاءِ النَّفَقَةِ، وَقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ دائرة السوء، دعا مُعْتَرِضٌ، دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِنِسْبَةِ ما أخبر به عنهم كَقَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ «1» وَالدُّعَاءُ مِنَ اللَّهِ هُوَ بِمَعْنَى إِنْجَابِ الشَّيْءِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَدْعُو عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ وَهِيَ فِي قَبْضَتِهِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: عَلَيْهِمْ تَدُورُ الْمَصَائِبُ وَالْحُرُوبُ الَّتِي يَتَوَقَّعُونَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُنَا وَعْدٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِخْبَارٌ. وَقِيلَ: دُعَاءٌ أَيْ: قُولُوا عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ أَيْ الْمَكْرُوهِ، وَحَقِيقَةُ الدَّائِرَةِ مَا تَدُورُ بِهِ الْأَيَّامَ. وَقِيلَ: يَدُورُ بِهِ الْفَلَكُ فِي سَيْرِهِ، وَالدَّوَائِرُ انْقِلَابُ النِّعْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا. وَفِي الْحُجَّةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّائِرَةُ مَصْدَرًا كَالْعَاقِبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر: والسوء هُنَا. وَفِي سُورَةِ الْفَتْحِ ثَانِيَةٌ بِالضَّمِّ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْفَتْحِ، فَالْفَتْحُ مَصْدَرٌ. قَالَ الفراء: سوأته سوأ وَمَسَاءَةً وَسَوَائِيَةً، وَالضَّمُّ الِاسْمُ وَهُوَ الشَّرُّ وَالْعَذَابُ، وَالْفَتْحُ ذَمُّ الدَّائِرَةِ وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وُصِفَتِ الدَّائِرَةُ بِالْمَصْدَرِ كَمَا قَالُوا: رَجُلُ سَوْءٍ فِي نَقِيضِ رَجُلِ صِدْقٍ، يَعْنُونَ فِي هَذَا الصَّلَاحَ لَا صِدْقَ اللِّسَانِ، وَفِي
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 64.

الصفحة 492