كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

مفتوحة وسين مضمومة. وقرىء إِسَاسُ بِالْكَسْرِ، وَهِيَ جُمُوعٌ أضيفت إلى البنيان. وقرىء أساس بفتح الهمزة، وأس بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَهُمَا مُفْرَدَانِ أُضِيفَا إِلَى الْبُنْيَانِ، فَهَذِهِ تِسْعُ قِرَاءَاتٍ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ: أَفَمَنْ أَسَسُ بِالتَّخْفِيفِ وَالرَّفْعِ، بُنْيَانِهِ بِالْجَرِّ على الإضافة، فأسس مَصْدَرُ أَسَّ: الْحَائِطَ يَؤُسُّهُ أَسًّا وَأَسَسًا. وَعَنْ نَصْرٍ أَيْضًا أَسَاسُ بُنْيَانِهِ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِالْأَلِفِ، وَأَسٌّ وَأَسَسٌ وَأَسَاسٌ كُلٌّ مَصَادِرُ انْتَهَى. وَالْبُنْيَانُ مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ، أُطْلِقَ عَلَى الْمَبْنَى كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ وَاحِدُهُ بُنْيَانَةٌ قَالَ الشَّاعِرَ:
كَبُنْيَانَةِ الْقَارِيِّ مَوْضِعُ رَحْلِهَا ... وَآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنَ الدَّفِّ أَبْلَقُ
وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَلَى تَقْوًى بِالتَّنْوِينِ، وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ سِيبَوَيْهِ، وَرَدَّهَا النَّاسُ.
قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: قِيَاسُهَا أَنْ تَكُونَ أَلِفُهَا لِلْإِلْحَاقِ كَأَرْطَى. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: حَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، جُرْفٍ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَجَمَاعَةٌ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ:
الْأَصْلُ الضَّمُّ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ فَانْهَارَتْ بِهِ قَوَاعِدُهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ تَبْيِينُ حَالَيِ الْمَسْجِدَيْنِ: مَسْجِدِ قُبَاءٍ، أَوْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَانْتِفَاءُ تَسَاوِيهِمَا وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله: رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَانْهَارَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
وَرَوَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ إِذْ أَرْسَلَ الرسول بهدمه رؤي مِنْهُ الدُّخَانُ
يَخْرُجُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يُدْخِلُ فِيهِ سَعَفَةً مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ فَيُخْرِجُهَا سَوْدَاءَ مُحْتَرِقَةً، وَكَانَ يَحْفِرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي انْهَارَ فَيَخْرُجُ مِنْهُ دُخَانٌ.
وَقِيلَ: هَذَا ضَرْبُ مَثَلٍ أَيْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَبَيَّنَ أَنَّ بِنَاءَ الْكَافِرِ كَبِنَاءٍ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ يَتَهَوَّرُ أَهْلُهُ فِي جَهَنَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قِيلَ: بَلْ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ بِعَيْنِهِ انْهَارَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ قَالَهُ: قتادة، وابن جريج. وخير لَا شَرِكَةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي خَيْرٌ إِلَّا عَلَى مُعْتَقَدٍ بَانِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَبِحَسَبِ ذَلِكَ الْمُعْتَقَدِ صَحَّ التَّفْضِيلُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَ دِينِهِ عَلَى قَاعِدَةٍ قَوِيَّةٍ مُحْكَمَةٍ وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ خَيْرٌ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ عَلَى قَاعِدَةٍ هِيَ أَضْعَفُ الْقَوَاعِدِ وَأَوْهَاهَا وَأَقَلُّهَا بَقَاءً وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالنِّفَاقُ الَّذِي مَثَلُهُ مَثَلُ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فِي قِلَّةِ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْسَاكِ؟ وُضِعَ شَفَا الْجُرُفِ فِي مُقَابَلَةِ التَّقْوَى، لَا جُعِلَ مَجَازًا عَنْ مَا يُنَافِي التَّقْوَى.

الصفحة 506