كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

كَانُوا فِي غَايَةِ الْقُرْبِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الشَّرِيفِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِلِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ. وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ أَيْ: وَضُحَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لِمُوَافَاتِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ، وَالتَّبَيُّنُ هُوَ بِإِخْبَارِ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ هُنَا هُوَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَبِهِ تَظَافَرَتْ أَسْبَابُ النُّزُولِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالِاسْتِغْفَارُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ. قَالُوا: وَالِاسْتِغْفَارُ لِلْمُشْرِكِ الْحَيِّ جَائِزٌ إِذْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا اسْتَغْفَرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَلِأُمِّهِ، قِيلَ لَهُ: وَلِأَبِيهِ؟ قَالَ: لَا لِأَنَّ أَبِي مَاتَ كَافِرًا، فَإِنْ وَرَدَ نَصٌّ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ حَيٌّ كَأَبِي لَهَبٍ امْتَنَعَ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ، فَتَبَيُّنُ كَيْنُونَةِ الْمُشْرِكِ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ تَمْوِيهٌ عَلَى الشِّرْكِ وَبِنَصِّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ حَيٌّ، أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَيَدْخُلُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ إِذَا كَانُوا أَحْيَاءً، لِأَنَّهُ يُرْجَى إِسْلَامُهُمْ مَا
حَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَنْ نَبِيٍّ قَبْلَهُ شَجَّهُ قَوْمُهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» .
وَلَمَّا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِصَدَدِ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:
نَسْتَغْفِرُ لِمَوْتَانَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ، بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ حِينَ اتَّضَحَتْ لَهُ عَدَاوَتُهُ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِبْرَاهِيمُ. وَالْمَوْعِدَةُ الَّتِي وَعَدَهَا إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ هِيَ قَوْلُهُ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي «2» وَقَوْلُهُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «3» . وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي وَعَدَهَا عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ أَبُوهُ بِقَيْدِ الحياة، فكان يرجوا إِيمَانَهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَأَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا وَانْقَطَعَ رَجَاؤُهُ مِنْهُ، تَبَرَّأَ مِنْهُ وَقَطَعَ اسْتِغْفَارَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ فِي وَعَدَ ضَمِيرٌ يُعُودُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَحَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ، وابن السميفع، وَأَبِي نَهِيكٍ، وَمُعَاذٍ الْقَارِئِ، وعدها أباه. وقيل: لفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم، وعده أبو أَنَّهُ سَيُؤْمِنُ فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ قَوِيَ طَمَعُهُ فِي إِيمَانِهِ، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُ حَتَّى نُهِيَ عَنْهُ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ، وَعَنْهُ وَمَا يَسْتَغْفِرُ إِبْرَاهِيمُ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اسْتِغْفَارَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ كَانَ فِي حَالَةِ الدُّنْيَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لِأَبِي
__________
(1) سورة النساء: 4/ 48.
(2) سورة مريم: 19/ 47.
(3) سورة الممتحنة: 60/ 4.

الصفحة 513