كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

الْهَرَبَ وَيَقُولُونَ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِنْ قُمْتُمْ؟ فَإِنْ لَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ خَرَجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ. وَلَمَّا اسْتَطْرَدَ مِنْ سَفَرِ الْغَزْوِ وَتَأْنِيبِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الرَّسُولِ إِلَى سَفَرِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، ثُمَّ أَمَرَ بِقِتَالِ مَنْ يَلِي مِنَ الْكُفَّارِ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ مَخَازِي الْمُنَافِقِينَ إِذْ هُمُ الَّذِينَ نَزَلَ مُعْظَمُ السُّورَةِ فِيهِمْ.
وَكَانَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَهُمْ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُمْ: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ لِبَعْضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولُوا: ذَلِكَ لِقَرَابَاتِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَقِيمُونَ إِلَيْهِمْ وَيَطْمَعُونَ فِي رَدِّهِمْ إِلَى النِّفَاقِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ: هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيرِ لِلسُّورَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَا، كَمَا تَقُولُ: أَيُّ غَرِيبٍ فِي هَذَا وَأَيُّ دَلِيلٍ فِي هَذَا، وَفِي الفتيان قِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْبَحْثِ وَالتَّنْبِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رأيكم بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: أَيَّكُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَالنَّصْبُ فِيهِ عِنْدَ الْأَخْفَشِ أفصح كهو بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ نَحْوُ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَهُ. وَالتَّقْسِيمُ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِطَابَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ عَامٌّ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ عِبَارَةٌ عَنْ حُدُوثِ تَصْدِيقٍ خَاصٍّ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُزُولِ السُّورَةِ مِنْ قَصَصٍ وَتَجْدِيدِ حُكْمٍ مِنْ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْبِيهٍ عَلَى دَلِيلٍ تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ وَيَكُونُ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِأَدِلَّةٍ، فَنَبَّهَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى دَلِيلٍ راد فِي أَدِلَّتِهِ، أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَةِ شَكٍّ يَسِيرٍ، أَوْ شُبْهَةٍ عَارِضَةٍ غَيْرِ مُسْتَحْكِمَةٍ، فَيَزُولُ ذَلِكَ الشَّكُّ وَتَرْتَفِعُ الشُّبْهَةُ بِتِلْكَ السُّورَةِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُسَمِّي الطَّاعَةَ إِيمَانًا، وَذَلِكَ مَجَازٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَتَتَرَتَّبُ الزِّيَادَةُ بِالسُّورَةِ إِذْ يَتَضَمَّنُ أَحْكَامًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: فَزَادَتْهُمْ: إِيمَانًا أَيْ خَشْيَةً أَطْلَقَ اسْمَ الشَّيْءِ عَلَى بَعْضِ ثَمَرَاتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا لِأَنَّهَا أَزْيَدُ لِلْمُتَّقِينَ عَلَى الثَّبَاتِ، وَأَثْلَجُ لِلصُّدُورِ. أَوْ فَزَادَتْهُمْ عَمَلًا، فَإِنَّ زِيَادَةَ الْعَمَلِ زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَقَعُ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ انْتَهَى. وَهِيَ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ فِي الْأَجْسَامِ، فَنُقِلَ إِلَى الِاعْتِقَادِ مَجَازًا وَالرِّجْسُ القذر، وَالرِّجْسُ الْقَذَرُ، وَالرِّجْسُ الْعَذَابُ، وَزِيَادَتُهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَمُّقِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَخَبْطِهِمْ فِي الضَّلَالِ. وَإِذَا كَفَرُوا بِسُورَةٍ. فَقَدْ زَادَ كُفْرُهُمْ وَاسْتَحْكَمَ وَتَزَايَدَ عِقَابُهُمْ. قَالَ قُطْرُبٌ وَالزَّجَّاجُ: أَرَادَ كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِثْمًا إِلَى إِثْمِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: شَكًّا إِلَى شَكِّهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ الْمُتَجَدِّدِ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنْتَجَ نُزُولُ السُّورَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ شَيْئَيْنِ: زِيَادَةُ الْإِيمَانِ، وَالِاسْتِبْشَارُ بِمَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَلِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ زِيَادَةُ رِجْسٍ، والموافاة على الكفر أذاهم كُفْرُهُمُ الْأَصْلِيُّ، وَالزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ.

الصفحة 529