كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 5)

وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ وَهَذَا يَقْتَضِي سَمَاعَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَلَامَ الْآخَرِ وَهَذَا جَائِزٌ عَقْلًا عَلَى بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ رُؤْيَةٍ وَاطِّلَاعٍ مِنَ اللَّهِ وَذَلِكَ أَخْزَى وَأَنْكَى لِلْكُفَّارِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَبَيْنَهُمُ الْحِجَابُ وَالسُّورُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا صَارَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ إِلَى الْجَنَّةِ طَمِعَ أَهْلُ النَّارِ فِي الفرح بَعْدَ الْيَأْسِ فَقَالُوا: يَا رَبِّ لَنَا قَرَابَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَأْذَنْ لَنَا حَتَّى نَرَاهُمْ وَنُكَلِّمَهُمْ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَعَرَفُوهُمْ وَنَظَرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى قَرَابَاتِهِمْ مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ فَلَمْ يَعْرِفُوهُمْ قَدِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ وَصَارُوا خَلْقًا آخَرَ فَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَخْبَرُوهُمْ بِقَرَابَاتِهِمْ فينادي الرجل أخوه فَيَقُولُ يَا أَخِي قَدِ احْتَرَقْتُ فَأَغِثْنِي فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وَمُفَسِّرَةً، وَكَلَامُ ابْنُ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ كَانَ عَنْ رَجَاءٍ وَطَمَعِ حُصُولِ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَاضِي هُوَ مَعَ الْيَأْسِ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا دَوَامَ عِقَابِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَلَكِنَّ الْيَائِسَ مِنَ الشَّيْءِ قَدْ يَطْلُبُهُ كَمَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ الْغَرِيقُ يَتَعَلَّقُ بِالزَّبَدِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُغْنِيهِ انْتَهَى، وأَفِيضُوا أَمْكَنُ مِنَ اسْقُونَا لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّوْسِعَةَ كَمَا يُقَالُ أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ أَيْ وَسَّعَهَا وَسُؤَالُهُمُ الْمَاءَ لِشِدَّةِ الْتِهَابِهِمْ وَاحْتِرَاقِهِمْ وَلِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ إِطْفَاءَ النَّارِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ لِأَنَّ الْبِنْيَةَ الْبَشَرِيَّةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ إِذْ هُوَ مُقَوِّيهَا أَوْ لِرَجَائِهِمُ الرّحمة بأكل طعام وأَوْ عَلَى بَابِهَا مِنَ كَوْنِهِمْ سَأَلُوا أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ وَأَتَى أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ عاما والعطف بأو يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومِ، وَقِيلَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ لِقَوْلِهِمْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى حَرَّمَ كُلًّا منهما فأوعلى بَابِهَا وَمَا رَزَقَكُمُ اللَّهُ عَامٌّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الطَّعَامُ وَالْفَاكِهَةُ وَالْأَشْرِبَةُ غَيْرَ الْمَاءِ وَتَخْصِيصُهُ بِالثَّمَرَةِ أَوْ بِالطَّعَامِ أَوْ غَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ أَقْوَالٌ ثَانِيهَا لِلسُّدِّيِّ وَثَالِثُهَا لِلزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ لِدُخُولِهِ فِي حُكْمِ الْإِفَاضَةِ فَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَأَلْقُوا عَلَيْنَا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ كَقَوْلِهِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ مَعَ يَأْسِهِمْ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ حَيْرَةً فِي أَمْرِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُضْطَرُّ الْمُمْتَحَنُ انْتَهَى وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ إِلَى آخِرِهِ هُوَ كَلَامُ الْقَاضِي وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَأَلْقُوا عَلَيْنَا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَفِيضُوا ضِمْنَ مَعْنَى أَلْقُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فَيَصِحُّ الْعَطْفُ وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ أَضْمَرَ فِعْلًا بَعْدَ أَوْ يَصِلُ إِلَى مِمَّا رَزَقَكُمُ وَهُوَ أَلْقُوا وَهُمَا مَذْهَبَانِ لِلنُّحَاةِ فِيمَا عُطِفَ عَلَى شَيْءٍ

الصفحة 61