كتاب توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (اسم الجزء: 5)

كانوا يعظمونه، وقيل: لأنهم كانوا يجعلونه في مكانه الذي جعله الله فيه، وهو بين جمادى وشعبان، فنُسب إليها لأجل ذلك، بخلاف ربيعة؛ فإنها كانت تجعل شهر رجب مكان شهر رمضان.
هذا الحديث حديث عظيم، فيه: أن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وأن الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه يوم خلقِ السماوات والأرض.
وقد كان أهل الجاهلية يعملون بالنسيء، والنسيء هو: تأخير بعض الأشهر الحرم، فكانوا يؤخرون شهر محرم، ويجعلون بدله شهر صفر؛ لئلا يطول عليهم ترك القتال؛ لتطاول المدة بتوالي الأشهر الثلاثة: ذي القعدة، وذي الحجة، ومحرم، فاختلطت الشهور عليهم بسبب هذا التأخير.
وهذا هو النسيء الذي قال الله تعالى فيه: {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكفرين}.
ثم استدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، فرجعت الشهور كما كانت في الحَجَّة التي حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أن كل شهر عاد إلى مكانه الذي كان عليه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا: أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)).
وفي هذا الحديث: أن هذه الأشهر الحرم يجب تعظيمها، والبعد عن ظلم النفس فيها أكثر من غيرها؛ ولهذا قال الله تعالى في الآية الكريمة: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم}، فيحرم ظلم النفس فيها بالشرك والمعاصي أشدَّ من غيرها؛ فظلم النفس بالشرك

الصفحة 27