كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن (اسم الجزء: 5)

وقوله لأن فم الرب قد نطق به إشارة إلى وجوب وقوعه، ومن قوله: فقال الصوت اصرخ الخ ضرب من شديد التأكيد لوجوب وقوعه، فلا دلالة لشيء منه على مسيح اليهود الموهوم، اللهم إلا أن يريدوا بالمسيح نفس المهدي، فحينئذ يلزمهم الإعتراف بنبوة عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وأما إنه لا يدل على عيسى بن مريم فلأن سياقه في أشعياء قد مر بيانه ولا محتمل له غيره، ولأن لوقا لم يذكره مستدلاً به عليه، ولا قرينة هناك يؤول إليها الضمير، بل إنه جملة مستأنفة في أول الإصحاح، ومضمون الإصحاح على الإجمال أن لوقا أخبر أنه في زمان كذا جاء يحيى بن زكريا إلى البرية يصرخ ويقول كذا.
وهذا لا يدل على المسيح بن مريم بوجه من الوجوه، ولكنه يدل على بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيام المهدي لأن الجملة مستأنفة والقاعدة في المستأنفات أن تحمل على ما يناسبها فيكون ما ذكره لوقا ضرباً من التأكيد لكلام أشعياء عليه السلام لا غير.
فعليك أن تتأمل في هذا البرهان فإنه في غاية اللطافة.
وفي متى ثم ضرب لهم مثلاً آخر وقال إن ملكوت الله تماثل حبة خردل أخذها رجل وزرعها في مزرعته وهي أصغر جميع الحبوب، فلما نمت صارت أعظم النباتات وأصبحت شجرة تأتي إليها طيور الجو، وتسكن في أغصانها انتهى.
وسياق هذا المثل أن المسيح كان جالساً على ساحل البحر فاجتمع عنده القوم فأخذ يضرب لهم الأمثال ومن جملتها هذا المثل، وقد أوله النصارى في حق من يكون محباً للمسيح مواظباً على عمل الخير، وهل فيه يا للرجال على هذا المعنى الضعيف دلالة ولا شك أنه من الأمثال التي كان يضربها المسيح عليه السلام في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -.

الصفحة 51