كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن (اسم الجزء: 5)

أيام ينظر الناس أليهم ثم هلكوا جميعاً.
واعلم أن ظاهر النظم القرآني هو أنه لم ينج من العذاب إلا الفرقة الناهية التي لم تعص لقوله أنجينا الذين ينهون عن السوء وأنه لم يعذب بالمسخ إلا الطائفة العاصية لقوله: (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) فإن كان الطوائف منهم ثلاثاً كما تقدم فالطائفة التي لم تنه ولم تعص يحتمل أنها ممسوخة مع الطائفة العاصية لأنها قد ظلمت نفسها بالسكوت عن النهي وعتت عما نهاها الله عنه من ترك النهي عن المنكر، ويحتمل أنها لم تمسخ لأنها وإن كانت ظالمة لنفسها عاتية عن أمر ربها ونهيه لكنها لم تظلم نفسها بهذه المعصية الخاصة وهي صيد الحوت في يوم السبت ولا عتت عن نهيه لها عن الصيد.
وأما إذا كانت الطائفة الثالثة ناهية كالثانية فهما في الحقيقة طائفة واحدة لاجتماعهما في النهي والاعتزال والنجاة من المسخ، وإنما جعلت طائفة مستقلة لأنها قد جرت المقاولة بينها وبين الطائفة الأخرى من الناهين المعتزلين.
(وإذ تأذن ربك) أي واسألهم وقت تأذن ربك، تأذن تفعل من الإيذان وهو الإعلام، قال أبو علي الفارسي: آذن بالمد أعلم وأذّن بالتشديد نادى، وقال قوم كلاهما بمعنى أعلم كما يقال أيقن وتيقن، وقيل معناه قال ربك وقيل حكم ربك، وقيل آلى ربك، وقال الزمخشري: عزم ربك، وقيل معناة حتم وأوجب والمعنى واسألهم وقت أن وقع الإعلام لهم من ربك.
وقيل في هذا الفعل معنى القسم كعلم الله وشهد الله، ولذلك أجيب كما يجاب به القسم حيث قال: (ليبعثن) أي ليرسلن (عليهم) ويسلطن كقوله: بعثنا عليهم عباداً لنا أولي بأس شديد (إلى يوم القيامة) غاية لقوله: (من يسومهم) يذيقهم (سوء العذاب) مما يبعثه الله عليهم، وقد كانوا

الصفحة 62