كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

النحل 12 بطريق الاستئنافِ وإيثارُ صيغةِ الاستقبال للدِّلالةِ على التَّجددِ والاستمرارِ وأنها سنتُه الجاريةُ على مر الدهور أو لاستحضار صورةِ الإنبات وتقديمُ الظرفين على المفعول الصريحِ لما مر آنفاً مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرّةِ ابتداءً وتقديمُ الزرعِ على ما عداه لأنه أصلُ الأغذية وعَمودُ المعاش وتقديمُ الزيتون لما فيه من الشرف من حيث إنه أدام من وجه وفاكهة من وجه وتقديم النخيل على الأعناب لظهور أصالتِها وبقائها وجمع الأعناب للإشارة إلى ما فيها من الاشتمال على الأصناف المختلفةِ وتخصيصُ الأنواعِ المعدودة بالذكرِ مع اندراجِها تحتَ قولِه تعالى (وَمِن كُلّ الثمرات) للإشعار بفضلها وتقديمُ الشجر عليها مع كونه غذاءً للأنعام لحصوله بغير صنعٍ من البشر أو للإرشاد إلى مكارم الأخلاقِ فإن مقتضاها أن يكون اهتمامُ الإنسان بأمر ما تحت يده وأكمل من اهتمامه بأمر نفسه أو لأن أكثرَ المخاطَبين من أصحاب المواشي ليس لهم زرعٌ ولا ثمرٌ وقيل المراد تقديمُ ما يسام لا تقديمُ غذائه فإنه غذاءٌ حيوانيّ للإنسان وهو أشرف الأغذية وقرىء يَنبُت من الثلاثي مسنداً إلى الزرع وما عُطف عليهِ (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في إنزال الماء وإنباتِ ما فُصّل (لآيَةً) عظيمة دالة على تفرده تعالى بالألوهية لاشتماله على كمال العلمِ والقدرةِ والحكمة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإن من تفكر في أن الحبةَ أو النواة تقع في الأرض وتصِل إليها نداوةٌ تنفُذ فيها فينشق أسفلُها فيخرُج منه عروق تنبسط في أعماق الأرضِ وينشق أعلاها وإن كانت منتكِسةً في الوقوع ويخرج منه ساقٌ فينمو ويخرج منه الأوراقُ والأزهارُ والحبوبُ والثمار المشتملةُ على أجسام مختلفةِ الأشكال والألوان والخواصِّ والطبائع وعلى نواة قابلةٍ لتوليد الأمثالِ على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد الموادِّ واستواءِ نسبة الطبائعِ السفلية والتأثيراتِ العلوية بالنسبة إلى الكل علم أن مَنْ هذه أفعالُه وآثارُه لا يمكن أن يشبهه شيءٌ في شيءٍ من صفات الكمالِ فضلاً عن أن يشاركه أخص الأشياء في أخص صفاتِه التي هي الألوهيةُ واستحقاقُ العبادة تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً وحيث افتقر سلوكُ هذه الطريقةِ إلى ترتيب المقدّماتِ الفكرية قطَع الآيةَ الكريمةَ بالتفكر
(وسخر لكم الليل والنهار) يتعاقبان خِلْفةً لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها (والشمس والقمر) يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافةً وإصلاحِهما لما نيط بهما صلاحُه من المكونات التي من جملتها ما فُصّل وأُجْمل كلُّ ذلك لمصالحكم ومنافعكم وليس المرادُ بتسخيرها لها تمكينهم من تصرفها كيف شاءوا كما في قوله تعالى سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا ونظائرِه بل هو تصريفُه تعالى لها حسبما يترتب عليه منافعُهم ومصالحُهم كأن ذلك تسخيرٌ لهم وتصرفٌ من قبلهم حسب إرادتِهم وفي التعبير عن ذلك التصريف بالتسخير إيماءٌ إلى ما في المسخَّرات من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة عَلى أنَّ ذلكَ أمرٌ واحدٌ مستمر وإن تجددت آثارُه (والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ) مبتدأٌ وخبرٌ أي سائرُ النجوم في

الصفحة 101