كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

النحل 79 80 بديهيةٌ تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلومِ الكسبية والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدور وهو من جموع القلة التي جرت مَجرى جموعِ الكثرة وتقديمُ المجرور على المنصوبات لما مر من الإيذانُ من أول الأمرِ بكون المجعول نافعاً لهم وتشويقِ النفس إلى المؤخر ليتمكن عند ورودِه عليها فضلُ تمكن {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} كي تعرِفوا ما أنعم به عليكم طوراً غِبَّ طَورٍ فتشكروه وتقديمُ السمع على البصر لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه أقدمُ من إدراك البصر وإفرادُه باعتبار كونه مصدراً في الأصل
{ألم يروا} وقرئ بالتاء {إِلَى الطير} جمع طائر أي ألم ينظروا إليها {مسخرات} مذلّلاتٍ للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسبابِ المساعدة له وفيه مبالغةٌ من حيث إن معنى التسخيرِ جعلُ الشيء منقاداً لآخرَ يتصرَّفُ فيه كيفَ يشاءُ كتسخير البحر والفُلك والدوابِّ للإنسان والواقع ههنا تسخيرُ الهواء للطير لتطير فيه كيف تشاء فكان مقتضى طبيعةِ الطير السقوطَ فسخرها الله تعالى للطيران وفيه تنبيه على أن الطيران ليس مقتضى طبعِ الطير بل ذلك بتسخير الله تعالى {فِى جَوّ السمآء} أي في الهواء المتباعدِ من الأرضَ والسكاك واللوح أبعدُ منه وإضافتُه إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولإظهار كمال القدرة {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجوِّ حين قبْضِ أجنحتهن وبسطِها ووقوفِهن {إِلاَّ الله} عزَّ وجلَّ بقدرته الواسعة فإن ثقلَ جسدها ورِقّةَ قوامِ الهواء يقتضيان سقوطَها ولا عِلاقةَ من فوقها ولا دِعامة من تحتها وهو إما حالٌ من الضمير المستتر في مسخّرات أو من الطير وإما مستأنف {إِنَّ فِى ذَلِكَ} الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خِلْقةً تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحةً خفيفة وأذناباً كذلك وجعل أجسادها من الخِفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابَها لا يطيق ثقلها يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير {لاَيَاتٍ} ظاهرة {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي من شأنهم أن يؤمنوا وإنما خص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به
{والله جَعَلَ لَكُمُ} معطوف على ما مر وتقديم لكم على ما سيأتي من المجرور والمنصوب لما مر من الإيذانُ من أول الأمرِ بأنه لمصلحتهم ومنفعتهم لتشويق النفسِ إلى وروده وقولُه تعالى {مِن بيوتكم} أي من بيوتكم المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدر تبيين لذلك المجعول المبْهمِ في الجملة وتأكيدٌ لما سبق من التشويق {سَكَناً} فَعَلٌ بمعنى مفعول أي موضعاً تسكنون فيه وقت إقامتِكم أو تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه أي جعل بعضَ بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به {وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الانعام بُيُوتًا}

الصفحة 132