كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

النحل 90 91 الكتاب ولم يضُرَّ ما في البعض من الخفاء في كونه تبياناً فإن المبالغةَ باعتبار الكمية دون الكيفية كما قيل في قوله تعالى {وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} إنه من قولك فلان ظالم لعبيده وظلام لعبيده ومنه قوله سبحانه وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} للعالمين فإن حرمان الكفر من مغانم آثارِه من تفريطهم لا من جهة الكتاب {وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} خاصة أو يكون كلُّ ذلك خاصاً بهم لأنهم المنتفِعون بذلك
{إِنَّ الله يَأْمُرُ} أي فيما نزّله تبياناً لكل شيء وهدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين وإيثارُ صيغةِ الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجددِ والاستمرار {بالعدل} بمراعاة التوسطِ بين طرفي الإفراطِ والتفريطِ وهو رأسُ الفضائل كلِّها يندرج تحته فضيلةُ القوةِ العقلية المَلَكية من الحكمة المتوسطة بين الحر مزة والبَلادة وفضيلةُ القوةِ الشهوية البهيمية من العِفة المتوسّطة بين الخلاعة والخمود وفضيلةُ القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهوُّرِ والجُبن فمن الحِكم الاعتقادية التوحيدُ المتوسطُ بين التعطيل والتشريك نُقلَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ العدلَ هو التوحيدُ والقولُ بالكسب المتوسّطِ بين الجبر والقدَر ومن الحِكم العملية التبعد بأداء الواجبات المتوسطِ بين البَطالة والترهب ومن الحِكم الخليقية الجودُ المتوسط بين البخل والتبذير {والإحسان} أي الإتيانِ بما أمر به على الوجه اللائقِ وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفيةِ كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام الإحسانُ أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراه فإنه يراك {وَإِيتَآء ذِى القربى} أي إعطاءِ الأقارب ما يحتاجون إليه وهو تخصيصٌ إثرَ تعميمٍ اهتماماً بشأنه {وينهى عَنِ الفحشاء} الإفراط في مشايعة القوة الشهوية كالزنا مثلاً {والمنكر} ما يُنكَر شرعاً أو عقلاً من الإفراط في إظهار آثار القوةِ الغضبية {والبغى} الاستعلاءُ والاستيلاءُ على الناس والتجبرُ عليهم وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانيةِ التي هي حاصلةٌ من رذيلتَيْ القوتين المذكورتين الشهويةِ والغضبية وليس في البشر شرٌّ إلا وهو مندرجٌ في هذه الأقسام صادرٌ عنه بواسطة هذه القُوى الثلاث ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه هي أجمعُ آيةٍ في القرآن للخير والشر ولو لم يكن فيه غيرُ هذه الآية الكريمة لكفَتْ في كونه تبياناً لكل شيءٍ وهدى {يَعِظُكُمُ} بما يأمر وينهى وهو إما استئنافٌ وإما حالٌ من الضميرين في الفعلين {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} طلباً لأن تتعظوا بذلك
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله} هو البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها مبايعةٌ لله سبحانه لقولِه تعالى إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله {إِذَا عاهدتم} أي حافظوا على حدود ما عاهدتم الله عليه وبايعتم به رسول الله صلى الله عليه وسلم

الصفحة 136