كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

انحل 92 93 {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان} التي تحلِفون بها عند المعاهدة {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} حسبما هو المعهودُ في أثناء العهودِ لا على أنْ يكونَ النهيُ مقيداً بالتوكيد مختصاً به {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} شاهداً رقيباً فإن الكفيلَ مُراعٍ لحال المكفول به محافظٌ عليه {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من نقض الأيمان والعهودِ فيجازيكم على ذلك
{وَلاَ تَكُونُواْ} فيما تصنعون من النقض {كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا} أي ما غزلتْه مصدرٌ بمعنى المفعول {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} متعلق بنقضت أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامِه {أنكاثا} طاقاتٍ نكثتْ فتلَها جمع نِكْث وانتصابُه عَلى الحاليةِ من غزْلَها أو على أنَّه مفعولٌ ثانٍ لنقضت فإنه بمعنى صيّرت والمرادُ تقبيحُ حالِ النقض بتشبيه الناقض بمثل هذه الخرقاءِ المعتوهةِ قيل هي رَيْطةُ بنتُ سعد بن تيم وكانت خرقاءَ اتخذت مِغزلاً قدرَ ذراعٍ وصَنّارةً مثلَ أصبع وفلكةً عظيمةً على قدرها فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقُضْن ما غزَلْن {تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ} حالٌ من الضمير في لا تكونوا أو في الجار والمجرور الواقعِ موقعَ الخبر أي مشابهين لا مرأة شأنُها هذا حالَ كونِكم متَّخذين أيمانَكم مفسدةً ودخَلاً بينكم وأصلُ الدخَل ما يدخُل الشيء ولم يكن منه {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ} أي بأن تكون جماعة {هِىَ أَرْبَى} أي أزيد عدداً وأوفر مالاً {مِنْ أُمَّةٍ} من جماعة أخرى أي لا تغدُروا بقوم لكثرتكم وقلتهم أو لكثرة مُنابذيهم وقوتهم كقريش فإنهم كانوا إذا رأوا شوكةً في أعادي حلفائِهم نقضوا عهدَهم وحالفوا أعداءهم {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} أي بأن تكون أمةٌ أربى من أمة أي يعاملكم بذلك معاملةَ من يختبركم لينظر أتتمسكون بحبل الوفاءِ بعهد الله وبَيعةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم أم تغترّون بكثرة قريشٍ وشوكتِهم وقلةِ المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال {وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} حين جازاكم بأعمالكم ثواباً وعقاباً
{وَلَوْ شَاء الله} مشيئةَ قسرٍ وإلجاءٍ {لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدةً} متفقةٌ على الإسلام {ولكن} لا يشاء ذلك لكونه مزاحِماً لقضية الحِكمة بل {يُضِلُّ مَن يَشَاء} إضلالَه أي يخلق فيه الضلالَ حسبما يصرِفُ اختيارَه الجزئيَّ إليه {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} هدايته حسبما يصرِف اختياره إلى تحصيلها {ولتسألن} جميعاً يوم القيامة {عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدُنيا وهذا إشارةٌ إلى ما لُوِّح به من الكسب الذي عليه يدورُ أمرُ الهداية والضلال

الصفحة 137