كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

النحل 104 106 السلام معدِناً لعلوم الأولين والآخرين {لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ} الإلحادُ الإمالةُ مِنْ ألحد القبرَ إذا أمال حفرَه عن الاستقامة فحفر في شق منه ثم استُعير لكل إمالةٍ عن الاستقامة فقالوا ألحد فلانٌ في قوله وألحد في دينه أي لغةُ الرجلِ الذي يُميلون إليه القول عن الاستقامة أعجميةٌ غير بينة وقرئ بفتح الياء والحاء وبتعريف اللسان {وهذا} أي القرآنُ الكريم {لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} ذوبيان وفصاحة والجملتان متسأنفتان لإبطال طعنهم وتقريرُه أن القرآن معجزٌ بنظمه كما أنه معجزٌ بمعناه فإن زعمتم أن بشراً يعلّمه معناه فكيف يعلّمه هذا النظمَ الذي أعجز جميعَ أهل الدنيا والتشبثُ في أثناء الطعن بأذيال أمثالِ هذه الخرافاتِ الركيكة دليلٌ كمال عجزهم
{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} أي لا يصدّقون أنها من عند الله بل يقولون فيها ما يقولون يسمّونها تارة افتراءً وأخرى أساطيرَ معلَّمةً من البشر {لاَ يَهْدِيهِمُ الله} إلى الحق أو إلى سبيل النجاةِ هدايةً موصِّلةً إلى المطلوبِ لما علم أنهم لا يستحقون ذلك لسوء حالهم {وَلَهُمْ} فى الأخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذا تهديدٌ لهم ووعيدٌ على ما هم عليه من الكفر بآياتِ الله تعالى ونسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء والتعلم من البشر بعد إماطةِ شبُهتِهم وردّ طعنهم وقوله تعالى
{إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} ردٌّ لقولهم إنما أنت مفترٍ وقلبٌ للأمر عليهم ببيان أنهم هم المفترون بعد رده بتحقيق أنه منزلٌ من عند الله بواسطة روحِ القدس وإنما وُسّط بينهما قوله تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ الآية لما لا يخفى من شدة اتصالِه بالرد الأول والمعنى والله تعالى أعلم إن المفترى هو الذين يكذّب بآيات الله ويقول إنه افتراءٌ ومعلَّمٌ من البشر أي تكذيبُها على الوجه المذكور هو الافتراءُ على الحقيقة لأن حقيقتَه الكذبُ والحكم بأن ما هو كلامُه تعالى ليس بكلامه تعالى في كونه كذباً وافتراءً كالحكم بأن ما ليس بكلامه تعالى كلامُه تعالى والتصريحُ بالكذب للمبالغة في بيان قُبحِه وصيغةُ المضارع لرعاية المطابقة بينه وبين ما هو عبارةٌ عنه أعني قولَه لاَ يُؤْمِنُونَ وقيل المعنى إنما يفتري الكذبَ ويليق ذلك بمن لا يؤمن بآيات الله لأنه لا يتقرب عقابا عليه ليرتدع عنها وأما من يؤمن بها ويخاف ما نطقتْ به من العقاب فلا يمكن أن يصدر عنه افتراءٌ البتةَ {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما ذكر من عدم الإيمانِ بآيات الله {هُمُ الكاذبون} على الحقيقة أو الكاملون في الكذب إذ لا كذِبَ أعظمُ من تكذيب آياتِه تعالى والطعنِ فيها بأمثال هاتيك الأباطيلِ والسرُّ في ذلك أن الكذِبَ الساذَجَ الذي هو عبارةٌ عن الإخبار بعدم وقوعِ ما هو واقعٌ في نفس الأمرِ بخلق الله تعالى أو بوقوعِ ما لم يقعْ كذلك مدافعةٌ لله تعالى في فعله فقط والتكذيبُ مدافعةٌ له سبحانه في فعله وقولِه المنبئ عنه معاً أو الذين عادتُهم الكذبُ لا يزَعُهم عنه وازعٌ من دين أو مروءةٍ وقيل الكاذبون في قولهم إنما أنت مفتر
{مَن كَفَرَ بالله} أي تلفظ بكلمة الكفر {مِن بَعْدِ إيمانه} به تعالى وهو ابتداءُ كلامٍ لبيان حال

الصفحة 142