كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

أي الكاملون في الغفلة إذ لا غفلةَ أعظمُ من الغفلة عن تدبر العواقب
{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الخاسرون} إذْ ضيّعوا أعمارَهم وصرفوها إلى مالا يفضي إلا إلى العذاب المخلد
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا} إلى دار الإسلام وهم عمار وأصحابه رضي الله عنهم أي لهم بالولاية والنصرِ لا عليهم كما يوجبه ظاهرُ أعمالِهم السابقةِ فالجارُّ والمجرور خبرٌ لإن ويجوز أن يكون خبرُها محذوفاً لدِلالة الخبرِ الآتي عليهِ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلك خبراً لها وتكون إن الثانيةُ تأكيداً للأولى وثم للدِلالة على تباعد رتبةِ حالهم هذه عن رتبةِ حالهم التي يفيدها الاستثناءُ من مجرد الخروجِ عن حكم الغضب والعذابِ بطريق الإشارة لا عن رتبة حالِ الكفرة {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أي عُذّبوا على الارتداد وتلفظوا بما يرضيهم مع اطمئنان قلوبهم بالإيمان وقرئ على بناء الفاعل أي عذَّبوا المؤمنين كالحضْرمي أكره مولاه جبرا حتى ارتدتم أسلما وهاجرا {ثُمَّ جاهدوا} في سبيل الله {وَصَبَرُواْ} على مشاقّ الجهاد {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد المهاجِرةَ والجهاد والصبرِ فهو تصريحٌ بما أَشعَرَ به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة له أو من بعد الفتنة المذكورة فهو لبيان عدمِ إخلالِ ذلك بالحكم {لَغَفُورٌ} لما فعلوا من قبلُ {رَّحِيمٌ} يُنعم عليهم مجازاةً على ما صنعوا من بعد وفي التعرض لعنوان الربوبية في الموضعين إيماءٌ إلى علة الحُكم وفي إضافة الربِّ إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ مع ظهور الأثرِ في الطائفة المذكورة إظهارٌ لكمال اللطفِ به عليه السلام وإشعارٌ بأن إفاضة آثارِ الربوبيةِ عليهم من المغفرة والرحمةِ بواسطته عليه السلام ولكونهم أتباعاً له
{يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ} منصوب برحيم وما رُتِّب عليه أو بالذكر وهو يومُ القيامةِ يومَ يقوم الناس لرب العالمين {تجادل عَن نَّفْسِهَا} عن ذاتها تسعى في خلاصها بالاعتذار لا يُهِمّها شأنُ غيرها فتقول نفسي نفسي {وتوفى كُلُّ نَفْسٍ} أي تعطى وافياً كاملاً {مَّا عَمِلَتْ} أي جزاءَ ما عمِلت بطريق إطلاقِ اسمِ السببِ عَلى المسبَّب إشعاراً بكمال الاتصالِ بين الأجزية والأعمال وإيثارُ الإظهار على الإضمار لزيادة التقريرِ وللإيذان باختلاف وفتى المجادلةِ والتوفيةِ وإن كانتا في يوم واحد {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لا يُنقَصون أجورهم أولا يعاقبون بغير موجب ولا يُزاد في عقابهم على ذنوبهم
{وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً} قيل ضرْبُ المثل صنعُه واعتمالُه وقد مرَّ تحقيقُه في سورة البقرة ولا يتعدى إلا إلى مفعول واحد وإنما عدى إلى الاثنين لتضمنه معنى الجعْل وتأخيرُ قريةً مع كونها

الصفحة 144