كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

النحل 113 مفعولا أول لئلا يحولَ المفعولُ الثاني بينها وبين صفتِها وما يترتب عليها إذْ التأخيرُ عن الكل مُخِلٌّ بتجاذب أطرافِ النظم وتجاوبها ولأن تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ مما يورث النفسَ ترقباً لوروده وتشوقا إليه لا سيما إذا كان في المقدَّم ما يدعو إليه فإن المثلَ مما يدعو إلى المحافظة على لا تفاصيل أحوالِ ما هو مثلٌ فيتمكن المؤخرُ عند ورودِه لديها فضلَ تمكنٍ والقريةُ إما محققةٌ في الغابرين وإما مقدرةٌ أي جعلها مثلاً لأهل مكةَ خاصةً أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمةُ ففعلوا ما فعلوا فبدل الله تعالى بنعمتهم نقمةً ودخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا {كانت آمنة} ذاتَ أمنٍ من كل مَخُوف {مُّطْمَئِنَّةً} لا يُزعج أهلَها مزعجٌ {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} أقواتُ أهلها صفةٌ ثانية لقريةً وتغييرُ سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيانَ رزقِها متجددٌ وكونَها آمنةً مطمئنةً ثابتٌ مستمرٌّ {رَغَدًا} واسعاً {مّن كُلّ مَكَانٍ} من نواحيها {فَكَفَرَتْ} أي كفرَ أهلُها {بِأَنْعُمِ الله} أي بنِعَمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدِرع وأدرُع أو جمع نُعْم كبؤس وأبؤس والمراد بها نعمةُ الرزقِ والأمن المستمرِّ وإيثارُ جمعِ القلةِ للإيذان بأن كفرانَ نعمة قلية حيث أوجب هذا العذابَ فما ظنك بكفران نِعمٍ كثيرة {فَأَذَاقَهَا الله} أي أذاق أهلها {لِبَاسَ الجوع والخوف} شُبِّه أثرُ الجوعِ والخوف وضررُهما المحيطُ بهم باللباس الغاشي للاّبس فاستُعير له اسمُه وأُوقِع عليه الإذاقةُ المستعارة لمطلق الإيصالِ المنبئة عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسةِ والذائقة على نهج التجريد فإنها لشيوع استعمالِها في ذلك وكثرةِ جرَيانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقةِ كقول كثيِّر [غمْرُ الرداءِ إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقابُ المال] فإن الغمْرَ مع كونه في الحقيقة من أحوال الماءِ الكثير لمّا كان كثيرَ الاستعمال في المعروف المشبَّهِ بالماء الكثير جرى مجرى الحقيقةِ فصارت إضافتُه إلى الرداء المستعارِ للمعروف تجريداً أو شبّه أثرُهما وضررُهما من حيث الإحاطةُ بهم والكراهةُ لديهم تارة باللباس الغاشي لِلاّبس المناسبِ للخوف بجامع الإحاطةِ واللزوم تشبيهَ معقولٍ بمحسوس فاستُعير له اسمُه استعارةً تصريحيةً وأخرى بطعم المرِّ البشعِ الملائمِ للجوع الناشىءِ من فقد الرزق بجامع الكراهة فأُوميَ إليه بأن أوقع عليه الإذاقة المستعارة لإيصال المضار المنبئة عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسة والذائقة وتقديمُ الجوع الناشئ مما ذكر من فقدان الرزقِ على الخوف المترتب على زوال الأمن المقدمِ فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسبَ بالإذاقة أو لمراعاة المقارنة بينها وبين إتيان الرزقِ وقد قرئ بتقديم الخوفِ وبنصبه أيضاً عطفاً على المضاف أو إقامةً له مُقامَ مضافٍ محذوف وأصله ولبسا الخوف {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} فيما قبلُ أو على وجه الاستمرار وهو الكفرانُ المذكور أسند ذلك إلى أهل القريةِ تحقيقاً للأمر بعد إسنادِ الكفرانِ إليها وإيقاعِ الإذاقة عليها إرادةً للمبالغة وفي صيغة الصنعة إيذان بأن كفران نعمة صار صنعةً راسخةً لهم وسنةً مسلوكة
{وَلَقَدْ جَاءهُمْ} من تتمة المثل جئ بها لبيان أن ما فعلوه من كفران النعم لم يكن مزاحمةً منهم لقضية العقلِ فقط بل كان ذلك معارضةً لحجة الله على

الصفحة 145