كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

النحل 121 123 أمة جمّةً حسبما قيل [ليس على الله بمستَنْكَر أن يجمع العالَمَ في واحدِ] وهو رئيسُ أهل التوحيد وقدوةُ أصحابِ التحقيق جادل أهلَ الشرك وألقمهم الحجرَ ببينات باهرةٍ لاَ تُبقي وَلاَ تَذَرُ وأبطل مذاهبهم الزائغة بالبراهين القاطعة والحُججِ الدامغة أو لأنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمناً وحده والناسُ كلُّهم كفارٌ وقيل هي فُعْلة بمعنى مفعول كالرُّحلة والنُّخبة من أمّه إذا قصده أو اقتدى به فإن الناسَ كانوا يقصِدونه ويقتدون بسيرته لقوله تعالى إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا وإيراد ذكره صلى الله عليه وسلم عَقيبَ تزييفِ مذاهبِ المشركين من الشرك والطعنِ في النبوة وتحريمِ ما أحله الله تعالى للإيذان بأن حقِّيةَ دينِ الإسلام وبطلانَ الشرك وفروعِه أمرٌ ثابت لا ريب فيه {قانتا لِلَّهِ} مطيعاً له قائماً بأمره {حَنِيفاً} مائلاً عن كل دينٍ باطل إلى الدين الحقِّ غيرَ زائلٍ عنه بحال {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعاً صرح بذلك مع ظهوره لا رداً على كفار قريشٍ فقط في قولهم نحن على ملة أبينا إبراهيمَ بل عليهم وعلى اليهود المشركين بقولهم عزيرٌ ابنُ الله في افترائهم وادعائهم أنه عليه الصلاةُ والسلام كان على ما هم عليه كقوله سبحانه مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نصرانيا ولكن كان حنفيا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين إذ به ينتظم أمر إيراد التحريم والسبت سابقاً ولاحقاً
{شَاكِراً لاّنْعُمِهِ} صفةٌ ثالثة لأُمةً وإنما أوثر صيغةُ جمعِ القلة للإيذان بأنه عليه السلام كان لا يُخِلُّ بشكر النعمة القليلة فكيف بالكثيرة وللتصريح بكونه عليه السلام على خلاف ما هم عليه من الكفرانَ بأنعم الله تعالى حسبما بيّن ذلك بضرب المثل {اجتباه} للنبوة {وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٍ إليه سبحانه وهو ملةُ الإسلامِ وليست نتيجةُ هذه الهدايةِ مجردَ اهتدائِه عليه السلام بل مع إرشاد الخلقِ أيضاً بمعونة قرينةِ الاجتباء
{وآتيناه فِى الدنيا حَسَنَةً} حالةً حسنةً من الذكر الجميل والثناءِ فيما بين الناس قاطبةً حتى إنه ليس من أهلِ دينٍ إلا وهم يتولَّوْنه وقيل هي الخُلّة والنبوةُ وقيل قولُ المصلِّي منا كما صليتَ على إبراهيمَ والالتفاتُ إلى التكلم لإظهار كمالِ الاعتناء بشأنه وتفخيم مكانِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين} أصحابِ الدرجات العالية في الجنة حسبما سأله بقوله وَأَلْحِقْنِى بالصالحين واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الأخرين واجعلنى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} مع علو طبقتك وسموِّ رتبتك {أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم} الملةُ اسمٌ لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياءِ عليهم السلام من أمللتُ الكتابَ إذا أمليتُه وهو الدينُ بعينه لكنْ باعتبار الطاعة له وتحقيقُه أن الوضع الإلهي مهما نُسب إلى من يؤدّيه عن الله تعالى يسمّى ملةً ومهما نُسب إلى من يقيمه ويعمل به يسمى ديناً قال الراغب الفرقُ بينهما أن الملة لا تضاف إلا إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ولا تكاد توجد مضافةً إلى الله سبحانه ولا إلى آحاد الأمة ولا تستعمل إلا في جملة الشرائعِ دون آحادها والمرادُ بملّته عليه السلام الإسلام الذي عبر عنه آنفاً بالصراط المستقيم {حَنِيفاً}

الصفحة 149