كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

الشيءَ {غَداً} أي فيما يُستقبل من الزمانِ مطلقاً فيدخُل فيه الغدُ دخولاً أولياً فإنه نزل حين قالت اليهودُ لقريش سلُوه عن الروح وعن أصحاب الكهفِ وذي القرنين فسأوله صلى الله عليه وسلم فقال ائتوني غداً أُخبرْكم ولم يستثنِ فأبطأ عليه الوحيُ حتى شق عليه وكذّبته قريشٌ وما قيل من أن المدلولَ بالعبارة هو الغدُ وما بعد ذلك مفهومٌ بطريق دِلالة النصِّ يرده أن ما بعده ليس بمعناه في مناط النهي فإن وسعةَ المجالِ دليلُ القدرة فليتأمل
{إلا أن يشاء الله} استثناءٌ مفرَّغٌ من النهي أي لا تقولن ذلك في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ ملابستِه بمشيئته تعالى على الوجه المعتادِ وهو أن يقال إن شاء الله أو في وقتٍ من الأوقاتِ إلا وقتَ أنْ يشاءَ الله أن تقوله لا مطلقاً بل مشيئته إذن مشيئته إذن فإن النسيانَ أيضاً بمشيئته تعالى ولا مساغَ لتعليقه بفاعل لعدم سِدادِ استثناءِ اقترانِ المشيئة بالفعل ومنافاةِ استثناءِ اعتراضها النهي وقيل الاستثناءُ جارٍ مَجرى التأييد كأنه قيل لا تقولنّه أبداً كقوله تعالى وَمَا كان لنا أن نعود فهيا إلا أن يشاء الله {واذكر رَّبَّكَ} بقولك إن شاء الله مداركا له {إِذَا نَسِيتَ} إذا فرَطَ منك نسيانٌ ثم ذكرتَه وعن ابن عباس رضي الله عنهما ولو بعد سنةٍ ما لم يحث ولذلك جوّز تأخيرُ الاستثناءِ وعامةُ الفقهاء على خلافه إذ لو صح ذلك لما تقرر إقرارٌ ولا طلاقٌ ولا عَتاقٌ ولم يُعلم صِدقٌ ولا كذِبٌ قال القرطبيُّ هذا في تدارك التبرك والتخلص عن الإثم وأما الاستثناءُ المغير للحكم فلا يكون إلا متصلا ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناءُ مبالغةٌ في الحثِّ عليه أو اذكر ربَّك وعقابَه إذا تركت بعضَ ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارُك أو اذكره إذا اعتراك النسيانُ ليذكِّرك المنسيَّ وقد حُمل على أداء الصلاةِ المنْسية عند ذكرِها {وَقُلْ عسى أن يهدين رَبّى} أي يوفقني {لاِقْرَبَ مِنْ هذا} أي لشيء أقربَ وأظهرَ من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالةِ على نبوتي {رَشَدًا} أي إرشاداً للناس ودلالةً على ذلك وقد فعل عز وجل ذلك حيث آتاه من البينات ما هو أعظمُ من ذلك وأبينُ كقصص الأنبياءِ المتباعدِ أيامُهم والحوادثِ النازلة في الأعصار المستقبلةِ إلى قيام الساعةِ أو لأقربَ رشداً وأدنى خبراً من المنسيّ
{وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ} أحياءً مضروباً على آذانهم {ثلاث مائة سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا} وهي جملةٌ مستأنَفةٌ مبينةٌ لما أُجمل فيما سلف وأُشير إلى عزة منالِه وقيل إنه حكايةُ كلامِ أهلِ الكتابِ فإنهم اختلفوا في مدة لُبثِهم كما اختلفوا في عِدّتهم فقال بعضهم هكذا وبعضهم ثلثمائة وروى عن عليَ رضيَ الله عنه أنه قال عند أهلِ الكتاب أنهم لبثوا ثلثمائة سنةٍ شمسيةٍ والله تعالى ذكر السنةَ القمريةَ والتفاوتَ بنيهما في كل مائة سنةٍ ثلاث سنين فيكون ثلثمائة وتسعَ سنين وسنينَ عطفُ بيان ثلثمائة وقيل بدل وقرئ على الإضافة وضعاً للجمع موضعَ المفردِ ومما يحسّنه ههنا أن علامةَ الجمعِ فيه جبر

الصفحة 217