كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

وقرئ بإثبات الياء والضميرُ العائد إلى الموصول محذوفٌ أصلُه نبغيه أي نطلبه لكونه أَمارةً للفوز بالمرام {فارتدا} أي رجعا {على آثارهما} طريقِهما الذي جاءا منه {قَصَصًا} يقُصان قَصصاً أي يتّبعان آثارَهما اتباعاً أو مقتصّين حتى أتيا الصخرة
{فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا} التنكيرُ للتفخيم والإضافةُ للتشريف والجمهور على أنه الخصر واسُمه بَلْيَا بنُ مَلْكَان وقيل اليسع وقيل إلياس عليهم الصلاة والسلام {آتيناه رحمة من عندنا} هي الوحيُ والنبوةُ كما يُشعِرُ به تنكيرُ الرحمة واختصاصُها بجناب الكبرياء {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} خاصاً لا يُكتنه كُنهُه ولا يُقادَرُ قدرُه وهو علمُ الغيوب
{قَالَ لَهُ موسى} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من السباق كأنه قيل فماذا جرى بنيهما من الكلام فقيل قال له موسى {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ} استئذاناً منه في اتّباعه له على وجه التعلم {مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً} أي علماً ذا رُشدٍ أرشُد به في ديني والرشدُ إصابةُ الخير وقرئ بفتحتين وهو مفعولُ تعلّمنِ ومفعول عُلّمت محذوفٌ وكلاهما منقولٌ من عِلم المتعدي إلى مفعول واحد ويجوز كونُه علةً لأتبعُك أو مصدراً بإضمار فعله ولا ينافي نبوتَه وكونَه صاحبَ شريعةٍ أن يتعلم من نبي آخر مالا تعلقَ له بأحكام شريعتِه من أسرار العلومِ الخفية ولقد راعى في سَوق الكلام غايةَ التواضع معه عليهما السلام
{قال} أي الخصر {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} نفى عنه استطاعةَ الصبر معه على وجه التأكيد كأنه مما لا يصِحّ ولا يستقيم وعلله بقوله
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} إيذاناً بأنه يتولى أموراً خفيةَ المدارِ مُنْكَرةَ الظواهرِ والرجلُ الصالح لا سيما صاحبِ الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها وفي صحيح البخاري قال الخضر يا موسى إنى على علمٍ من علم الله تعالى علَّمنيه لا تعلَمُه وأنت على علمٍ من علم الله علّمكه الله لا أعلمه وخبراً تمييز أي لم يحط به خبرك
{قال} موسى عليه الصلاة والسلام {ستجدنى إن شاء الله صَابِرًا} معك غيرَ معترضٍ عليك وتوسيطُ الاستثناء بين مفعولَي الوُجدان لكمال الاعتناءِ بالتيمن ولئلا يتوهم تعلقه بالصبر {وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً} عطف على صابراً أي ستجدني صابراً وغيرَ عاصٍ وفي وعد هذا الوُجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبرِ وتركِ العصيان أو على ستجدني فلا محلَّ له من الإعراب والأولُ هو الأولى لما عرفته ولظهور تعلقِه بالاستثناء حينئذ وفيه دليلٌ على أنَّ أفعالَ العبادِ بمشيئةِ الله سبحانه وتعالى

الصفحة 234