كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

الكهف 85 86 قادرين من حيث القُوى والأسبابُ والآلاتُ على أنواع التصرفاتِ فيها ما لم نجعلْه لكم من القوة والسَّعة في المال والاستظهارِ بالعَدد والأسباب فكأنه قيل ما لم نمكنْكم فيها أي ما لم نجعلْكم قادرين على ذلك فيها أو مكنّا لهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وهكذا إذا كان التمكينُ مأخوذاً من المكان بناءً على توهّم ميمِه أصليةً كما أشير إليه في سورة يوسف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمعنى إنا جعلنا له مَكِنةً وقدرةً على التصرف في الأرض من يحث التدبيرُ والرأيُ والأسبابُ حيث سخر له السحاب ومدله في الأسباب وبُسط له النورُ وكان الليلُ والنهار عليه سواءً وسُهِّل عليه السيرُ في الأرض وذُلّلت له طرقها {واتيناه مِن كُلّ شَىْء} أراده من مُهمّات مُلكه ومقاصدِه المتعلقة بسلطانه {سَبَباً} أي طريقاً يوصله إليه وهو كلُّ ما يُتوصَّل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة
{فَأَتْبَعَ} بالقطع أي فأراد بلوغَ المغرب فأتبع {سَبَباً} يوصله إليه ولعل قصدَ بلوغِ المغرب ابتداءً لمراعاة الحركة الشمسية وقرئ فاتّبع من الافتعال والفرق أن الأولَ فيه معنى الإدراك والإسراعِ دون الثاني
{حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس} أي منتهى الأرضِ من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحدٌ من مجاوزته ووقف على حافة البحر المحيطِ الغربي الذي يقال له أو قيانوس الذي فيه الجزائرُ المسماة بالخالدات التي هي مبدأُ الأطوال على أحد القولين {وَجَدَهَا} أي الشمس {تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي ذاتِ حَمأة وهي الطينُ الأسود من حمِئت البئرُ إذا كثرت حمأتها وقرئ حامية أي حارّة روي أن معاوية رضي الله عنه قرأ حامية وعنده ابن عباس رضي الله عنهما فقال حَمِئة فقال معاوية لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص كيف تقرأ قال كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمسَ تغرب قال في ماء وطين وروي في ثَأْط فوافق قولُ ابن عباسٍ رضيَ الله عنهما وليس بينهما منافاةٌ قطعية لجواز كون العينِ جامعةً بين الوصفين وكونِ الياء في الثانية منقلبةً عن الهمزة لانكسار ما قبلها وأما رجوعُ معاوية إلى قولُ ابن عباسٍ رضيَ الله عنهم بما سمعه من كعب مع أن قراءته محتمَلةً ولعله لما بلغ ساحلَ المحيط رآها كذلك إذ ليس في مطمح بصره غيرُ الماء كَما يلوحُ بهِ قولُه تعالى وَجَدَهَا تَغْرُبُ {وَوَجَدَ عِندَهَا} عند تلك العين {قَوْماً} قيل كان لباسُهم جلودَ لوحوش وطعامُهم ما لفَظه البحر وكانوا كفاراً فخيّره الله جل ذكره بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوَهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى {قلنا يا ذا القرنين إِمَّا أَن تُعَذّبَ} بالقتل من أول الأمرِ {وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} أي أمراً ذا حُسْن على حذف المضافِ أو على طريقةِ إطلاقِ المصدر على موصوفه مبالغةً وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع ومحلُّ أن مع صلته إمَّا الرفعُ عَلَى الابتداءِ أو الخبرية وإما النصبُ على المفعولية أي إما تعذيبُك واقع أو إما أمرك تعذيبك

الصفحة 242