كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

مريم
30 - 34 {قال} استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظمُ الكريمُ كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل قال عيسى عليه السلام {إِنّى عَبْدُ الله} أنطقه الله عز وجل بذلك آثرَ ذي أثيرٍ تحقيقاً للحق وردًّا على من يزعُم ربوبيته قيل كان المستنطِقُ لعيسى زكريا عليهما الصلاة والسلام وعن السدي رضي الله عنه لما أشارت إليه غضِبوا وقالوا لَسُخرَيتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت وروي أنه عليه السلام كان يرضَع فلما سمع ذلك ترك الرَّضاعَ وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار إليهم بسبابته فقال ما قال الخ وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان {آتاني الكتاب} أي الإنجيلَ {وَجَعَلَنِى نَبِيّاً}
{وَجَعَلَنِى} مع ذلك {مُبَارَكاً} نفّاعاً معلِّماً للخير والتعبيرُ بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتومِ أو بجعل ما في شرَفِ الوقوعِ لا محالة واقعاً وقيل أكمله الله عقلا واستنباه طفلا {أين ما كُنتُ} أي حيثما كنت {واوصانى بالصلاة} أي أمرني بها أمرا مؤكدا {والزكاة} زكاةِ المال إن ملكتُه أو بتطهير النفسِ عن الرذائل {مَا دُمْتُ حَيّاً} في الدنيا
{وَبَرّاً بِوَالِدَتِى} عطفٌ على مباركاً أي جعلني بارًّا بها وقرئ بالكسرِ على أنهُ مصدرٌ وُصف به مبالغةً أو منصوبٌ بمضمر دل عليه أوصاني أي وكلفني بَرًّا ويؤيده القراءةُ بالكسر والجر عطفاً على الصلاة والزكاة والتنكيرُ للتفخيم {وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً} عنيداً لله تعالى لفَرْط تكبّره
{والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} كما هو على يحيى على أن التعريفَ للعهد والأظهرُ أنه للجنس والتعريضِ باللعن على أعدائه فإن إثباتَ جنسِ السلام لنفسه تعريضٌ بإثبات ضدِّه لأضداده كما في قوله تعالى والسلام على مَنِ اتبع الهدى فإنه تعريضٌ بأن العذابَ على من كذّب وتولى
{ذلك} إشارةٌ إلى من فُصّلت نعوتُه الجليلةُ وما فيه من معنى البعد للدِلالة على علو مرتبتِه وبُعد منزلتِه وامتيازِه بتلك المناقبِ الحميدةِ عن غيره ونزولِه منزلةَ المشاهَد المحسوس {عِيسَى ابن مَرْيَمَ} لا ما يصفه النصارى وهو تكذيبٌ لهم فيما يزعُمونه على الوجه الأبلغِ والمنهاج البرهانيِّ حيث جعله موصوفاً بأضداد ما يصفونه {قَوْلَ الحق} بالنصب على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لقال إني عبد الله الخ وقولُه تعالَى ذلك {عِيسَى ابن مَرْيَمَ} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو قولُ الحق الذي لا ريب فيه والإضافةُ للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة وقيل صفةُ عيسى أو بدلُه أو خبر ثان

الصفحة 264