كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

سورة مريم
59 - 62 {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} يقال لعَقِب الخير خلفٌ بفتح اللام ولعقب شر خلْفٌ بالسكون أي فعقَبهم وجاء بعدهم عَقِبُ سوءٍ {أضاعوا الصلاة} وقرئ الصلواتِ أي تركوها أو أخّروها عن وقتها {واتبعوا الشهوات} من شرب الخمر واستحلالِ نكاحِ الأختِ من الأب والانهماكِ في فنون المعاصي وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه هم من بني المشيد وركب المنظور ولُبس المشهور {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} أي شراً فإن كلَّ شر عند العرب غيٌّ وكل خير رشادٌ كقوله
فمن يلقَ خيراً يحمَدِ الناسُ أمرَه ... ومن يغولا يعدَمْ على الغي لائما

وعن الضحاك جزاءَ غيَ كقوله تعالى {يَلْقَ أَثَاماً} أي جزاء أثام أو غياً عن طريق الجنة وقيل غَيٌّ وادٍ في جهنمَ تستعيذ منه أوديتُها وقوله تعالى
{إلا من تاب وآمن وَعَمِلَ صالحا} يدل على أن الآيةَ في حق الكفرة {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ وما فيهِ منْ معنى البعدِ لما مرَّ مراراً أي فأولئك المنعوتون بالتوبة والإيمانِ والعمل الصالح {يَدْخُلُونَ الجنة} بموجب الوعد المحتوم وقرئ يُدْخَلون على البناءِ للمفعولِ {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} أي لا يُنقصون من جزاء أعمالِهم شيئاً أو لا ينقصون شيئاً من النقص وفيه تنبيه على أن كفرَهم السابقَ لا يضرهم ولا ينقُص أجورَهم
{جنات عَدْنٍ} بدلٌ من الجنةَ بدلَ البعض لاشتمالها عليها وما بينهما اعتراضٌ أو نُصب على المدحِ وقرئ بالرفع على أنه خبرُ لمبتدأ محذوفٍ أي هي أو تلك جنات الخ أو مبتدأ خبره إلى وعد الخ وقرئ جنة عدْنَ نصباً ورفعاً وعدْنُ علمٌ لمعنى العَدْن وهو الإقامةُ كما أن فيْنةَ وسحرَ وأمسَ فيمن لم يصرِفها أعلامٌ لمعاني الفينةِ وهي الساعة التي أنت فيها والسحرِ والأمسِ فجرى لذلك مجرى العدْن أو هو علم الأرض الجنة خاصةً ولولا ذلك لما ساغ إبدالُ ما أضيف إليه من الجنة بلا وصفٍ عند غير البصريين ولا وصفة بقوله تعالى {التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ} وجعلُه بدلاً منه خلافُ الظاهر فإن الموصولَ في حكم المشتقّ وقد نصّوا على أن البدَل بالمشتق ضعيفٌ والتعرضُ لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدَها وإنجازَه لكمال سَعةِ رحمته تعالى والباء في قوله تعالى {بالغيب} متعلقةٌ بمضمرٍ هو حالٌ من المضمر العائدِ إلى الجنات أو من عباده أي وعدها إياهم ملتبسةً أو ملتبسين بالغيب أي غائبةً عنهم غيرَ حاضرة أو غائبين عنها لا يرَوْنها وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار أو بمضمر هو سبب للوعد أي وعدها إياهم بسبب إيمانِهم {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ} أي موعوده كائناً ما كان فيدخل فيه الجناتُ الموعودةُ دخولاً أولياً ولما كانت هي مثابةً يُرجَع إليها قيل {مَأْتِيّاً} أي يأتيه مَنْ وُعِد له لا محالة بغير خُلْف وقيل هو مفعولٌ بمعنى فاعل وقيل مأتياً أي مفعولاً مُنجَزاً من أتى إليه إحساناً أي فعَلَه
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً}

الصفحة 272