كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

لعطف الجملة المنفيةِ على مقدر يدلُّ عليه يقول أي أيقول ذلك ولا يذكر {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ} أي من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالةُ بقائِه {وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} أي والحالُ أنه لم يكن حينئذ شيئاً أصلاً فحيث خلقناه وهو في تلك الحالةِ المنافيةِ للخلق بالكلية مع كونه أبعدَ من الوقوع فلأَنْ نَبعثَه بجمع الموادِّ المتفرِّقة وإيجادِ مثلِ ما كان فيها من الأعراض أولى وأظهر فماله لا يذكُره فيقعَ فيما يقع فيه من النكير وقرئ يذّكّر ويتذكر على الأصل
{فَوَرَبّكَ} إقسامُه باسمه عزّت أسماؤه مضافاً إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ لتحقيق الأمرِ بالإشعار بعلّيته وتفخيمِ شأنِه صلى الله عليه وسلم ورفع منزلته {لنحشرنهم} أي لنجمعَن القائلين بالسَّوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم من الأرض أحياءً ففيه إثباتٌ للبعث بالطريق البرهانيّ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه كأنه أمرٌ واضحٌ غنيٌ عن التصريح به وإنما المحتاجُ إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال {والشياطين} معطوفٌ على الضمير المنصوبِ أو مفعولٌ معه روي أن الكفرةَ يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تُغْويهم كلٌّ منهم مع شيطانه في سلسلة وهذا وإن كان مختصاً بهم لكن ساغ نسبتُه إلى الجنس باعتبار أنهم لما حُشروا وفيهم الكفرةُ مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعاً كما ساغ نسبة القول المحكيّ إليه مع كون القائل بعضَ أفراده {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} ليرى السعداءُ ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غِبطةً وسروراً وينالَ الأشقياءُ ما ادخّروا لِمَعادهم عُدّةً ويزدادوا غيظاً من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتِهم بهم والجِثيُّ جمع جاثٍ من جثا إذا قعد على ركبتيه وأصله جثو وبواوين فاستُثقل اجتماعُهما بعد ضمتين فكسرت الثاء لتخفيف فانقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فاجتمعت واو وياء وسبق إحداهما بالسكون فقُلبت الواوُ ياءً وأُدغمت فيها الياء الأولى وكُسرت الجيم إتباعاً لما بعدها وقرئ بضمها ونصبُه على الحالية من الضمير البارز أي لنُحضرنهم حول جهنم جاثين على رُكَبهم لما يدهَمُهم من هول المطلَعِ أو لأنه من توابع التواقُفِ للحساب قبل التواصُل إلى الثواب والعقاب فإن أهلَ الموقف جاثون كما ينطِق به قوله تعالى وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً على ما هو المعتادُ في مواقف التقاول وإن كان المرادُ بالإنسان الكفرةَ فلعلهم يساقون من الموقف إلى شاطئ جهنم جُثاةً إهانةً بهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة
{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ} أي من كل أمة شاعت ديناً من الأديان {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} أي مَنْ كان منهم أعصى وأعتى فنطرَحهم فيها وفي ذكر الأشدّ تنبيهٌ على أنه تعالى يعفو عن بعضٍ من أهل العصيان وعلى تقدير تفسير الإنسانِ بالكفرة فالمعنى إنا نميز من كل طائفةٍ منهم أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم فنطرحهم في النار على الترتيب أو نُدخل كلاًّ منهم طبقتَها اللائقةَ به وأيُّهم مبنيٌّ على الضم عند سيبويه لأن حقه أن يُبنى كسائر الموصولاتِ لكنه أُعرب حملاً على كلٍ وبعض للزوم الإضافة وغذا حُذف صدرُ صلتِه زاد نقصُه فعاد إلى حقه ومنصوب المحل بننزعن ولذلك قرئ منصوباً ومرفوعٌ عند غيره بالابتداء

الصفحة 275