كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

أي بآياتنا التي من جملتها آياتُ البعث نزلتْ في العاصِ بنِ وائلٍ كان لخبّابٍ بنِ الأرتّ عليه مالٌ فاقتضاه فقال لا حتى تكفرَ بمحمد قال لا والله لا أكفرُ به حياً ولا ميْتاً ولا حين بُعِثتُ قال فإذا بعثت جئني فيكونُ لي ثمّةَ مالٌ وولدٌ فأعطِيَك وفي رواية قال لا أكفر به حتى يُميتك ثم تُبعثَ فقال إني لميِّتٌ ثم مبعوثٌ قال نعم قال دعني حتى أموتَ وأُبعث فسأوتى مالاً وولداً فأقضيَك فنزلت فالهمزةُ للتعجيب من حاله والإيذانِ بأنها من الغرابة والشناعةِ بحيث يجب أن تُرى ويُقضَى منها العجب ومن فرّق بين ألم ترو إلى أرأيت بعد بيان اشتراكِهما في الاستعمال لقصد التعجيبِ بأن الأولَ يعلّق بنفس المتعجبِ منه فيقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى صنع كذا بمعنى انظُرْ إليه فتعجَّبْ من حاله والثاني يعلّق بمثل المتعجَّب منه فيقال أرأيتَ مثْلَ الذي صنع كذا بمعنى أنه من الغرابة بحيث لا يُرى له مِثْلٌ فقد حفِظ شيئاً وغابت عنه أشياءُ وكأنه ذهب عليه قوله عز وجل أرأيت الذى يُكَذّبُ بالدين والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنظَرْتَ فرأيتَ الذي كفر بآياتنا الباهرةِ التي حقُّها أن يؤمِنَ بها كلُّ من يشاهدها {وقال} مستهزئا بها مصدر لكلامه باليمن الفاجرةِ والله {لأُوتَيَنَّ} في الآخرة {مَالاً وَوَلَدًا} أي انظر إليه فتعجب من حالته البديعة وجراءته الشنيعة هَذَا هُو الذي يستدعيه جزالةُ النظمِ الكريمِ وقد قيل إن أرأيت بمعنى أخبِرْ والفاءُ على أصلها والمعنى أخبِرْ بقصة هذا الكافرِ عقيبَ حديثِ أولئك الذين قالوا أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً الآية وأنت خبيرٌ بأن المشهورَ استعمال أرأيت في معنى أخبرني بطريق الاستفهامِ جارياً على أصله أو مُخْرَجاً إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالإخبار لغيره وقرئ وُلْداً على أنه جمع وَلد كأُسْد جمعُ أسد أو على أنه لغة فيه كالعُرْب والعَرَب وقوله تعالى
{أَطَّلَعَ الغيب} ردٌّ لكلمته الشنعاء وإظهارٌ لبطلانها إثرَ ما أشير إليه بالتعجيب منها أي أقد بلغ من عظمة الشأنِ إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذي استأثر به العليمُ الخبير حتى ادعى أن أن يؤتى في الآخرة مالاً وولداً وأقسم عليه {أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} بذلك فإنه لا يُتوصَّل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين والتعرضُ لعنوان الرحمانية للإشعار بعلية لإيتاء ما يدّعيه وقيل العهدُ كلمةُ الشهادة وقيل العملُ الصالح فإن وعدَه تعالى بالثواب عليهما كالعهد وهذا مجاراةٌ مع اللعين بحسب منطوقِ مقالِه كما أن كلامَه مع خبّاب كان كذلك وقوله تعالى
{كَلاَّ} ردعٌ لهُ عنْ التفوّه بتلك العظيمةِ وتنبيهٌ على خطئه {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أي سنُظهر أنا كتبنا قوله كقوله ... إذا ما نتسبنا لم تلدني لئيمة ...
أي يتبينُ أني لم تلدني لئيمة أو سننتقم منه انتقامَ مَنْ كتب جريمةَ الجاني وحفِظها عليه فإن نفس الكتيبة لا تكاد تتأخر عن القول لقوله عز وعلا مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ فمبنى الأولِ تنزيلُ إظهارِ الشيءِ الخفيِّ منزلةَ إحداثِ الأمرِ المعدومِ بجامع أن كلاًّ منهما إخراجٌ من الكُمون إلى البروز فيكون استعارةً تبعيةً مبنية على تشبيه إظهارِ الكتابة على رءوس الأشهاد بإحداثها ومدارُ الثاني تسميةُ الشيء باسم سببِه فإن

الصفحة 279