كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

والذي يقتضيه مقامُ التهويلِ وتستدعيه جزالةُ التنزيل أن ينتصبَ بأحد الوجهين الأولَين ويكونُ هذا استئنافاً مبيناً لبعض ما فيه من الأمور الدالةِ على هوله وضميرُه عائداً إلى العباد المدلولِ عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيهما وقيل إلى المتقين خاصة وقيل إلى المجرمين من الكفرة وأهلِ الإسلام والشفاعةُ على الأولين مصدرٌ من المبنيّ للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن تكون مصدراً من المبنيّ للمفعول وقوله تعالى {إِلاَّ مِن اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} على الأولِ استثناءٌ متصلٌ مِن لا يملكون ومحلُّ المستثنى إما الرفعُ على البدل أو النصبُ على أصلِ الاستثناءِ والمَعْنى لا يملك العبادُ أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعَدّ له بالتحلّي بالإيمان والتقوى أو من أُمر بذلك من قولهم عهدِ الأميرُ إلى فلان بكذا إذا أمرَه به فيكون ترغيباً للناس في تحصيل الإيمانِ والتقوى المؤدِّي إلى نيل هذه الرتبةِ وعلى الثاني استثناءٌ من الشفاعة على حذف المضافِ والمستثنى منصوبٌ على البدل أو على أصل الاستثناءِ أي لا يملك المتقون الشفاعةَ إلا شفاعةَ من اتخذ العهد بالإسلام فيكون ترغيباً في الإسلام وعلى الثالث استثناءٌ مِنْ لا يملكون أيضاً والمستثنى مرفوعٌ على البدل أو منصوبٌ على الأصل والمعنى لا يملك المجرمون أن يَشفع لهم إلا مَنْ كان منهم مسلماً
{وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} حكايةٌ لجناية اليهودِ والنصارى ومن يزعُم من العرب أن الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً إثرَ حكاية عبَدةِ الأصنام بطريق عطفِ القصة على القصة وقوله تعالى
{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَا} ردٌّ لمقالتهم الباطلةِ وتهويلٌ لأمرها بطريق الالتفات المبني عن كمال السخطِ وشدةِ الغضب المُفصِح عن غاية التشنيعِ والتقبيحِ وتسجيلٌ عليهم بنهاية الوقاحةِ والجهل والجراءة والإدُّ بالكسر والفتح العظيمُ المنكر والإدّةُ الشدةُ وأدَني الأمرُ وآدَني أثقلني وعظُم عليّ أي فعلتم أمراً منكراً شديداً لا يقادَر قدره من جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته وقوله تعالى
{تكاد السماوات} الخ صفةٌ لإدًّا أو استئناف ببيان عظيم شأنه في الشدة والهول وقرئ يكاد بالتذكير {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} يتشقّقن مرةً بعد أخرى من عِظم ذلك الأمر وقرئ ينفطرْن والأولُ أبلغُ لأن تفعّل مطاوِعُ فعّل وانفعلَ مطاوعُ فَعَل ولأن أصل التفعّل التكلف {وَتَنشَقُّ الأرض} أي وتكاد تنشق الأرض {وَتَخِرُّ الجبال} أي تسقُط وتتهدم وقوله تعالى {هَدّاً} مصدرٌ مؤكّدٌ لمحذوف وهو حال من الجبال أي تُهدّ هدًّا أو مصدرٌ من المبنيِّ للمفعول مؤكّدٌ لتخِرُّ على غير الصدر لأنه حينئذ بمعنى التهدّم والخرُور كأنه قيل وتخِرّ الجبال خروراً أو مصدرٌ بمعنى المفعول منصوبٍ على الحالية أي مهدودةً أو مفعول له أي لأنها تُهَدّ وهذا تقريرٌ لكونه إدًّا والمعنى أن هَولَ تلك الشنعاءِ وعِظمَها بحيث لو تَصوّرتْ بصورة محسوسة لم تُطِقْ بها هاتيك الأجرامُ العظام وتفتت من شدتها أو أن فظاعتَها في استجلاب الغضَبِ واستيجابِ السَّخَط

الصفحة 282