كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

إبراهيم 15 17 مَقَامِى) موقفي وهو الموقفُ الذي يقفُ فيه العبادُ يوم يقوم الناس لرب العالمين أو قيامي عليه وحفظي لأعماله وقيل لفظُ المقام مُقحَمٌ (وَخَافَ وَعِيدِ) وعيدي بالعذاب أو عذابيَ الموعودَ للكفار والمعنى أن ذلك حقٌّ للمتقين كقوله والعافية لِلْمُتَّقِينَ
(واستفتحوا) أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح أو استحكموا وسألوه القضاءَ بينهم من الفتاحة وهي الحكومةُ كقوله تعالى رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق فالضميرُ للرسل وقيل للكفرة وقيل للفريقين فإنهم سألوا أن يُنصَر المحِقُّ ويهلَك المبطل وهو معطوفٌ على أوحى إليهم وقرىء بلفظ الأمر عطفا على لتهلكن الظالمين أي أوحى إليهم ربهم لنُهلِكَنّ وقال لهم استفتِحوا (وَخَابَ) أي خسِر وهلك (كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) متّصفٍ بضد ما اتصف به المتقون أي فنُصروا عند استفتاحهم وظفرا بما سألوا وأفلحوا وخاب كلُّ جبارٍ عنيد وهم قومُهم المعاندون فالخيبةُ بمعنى مطلق الحرمان دون الحِرمان عن المطلوب أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعُمون أنهم على الحق أو استفتح الكفارُ على الرسل وخابوا ولم يُفلحوا وإنما قيل وخاب كلُّ جبا عنيد ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالتجبّر والعِناد لا أنَّ بعضَهم ليسُوا كذلك وأنه لم يُصبْهم الخيبةُ أو استفتحوا جميعاً فنُصر الرسلُ وأُنجِز لهم الوعدُ وخاب كلّ عاتٍ متمردٍ فالخيبةُ بمعنى الحرمان غِبَّ الطلب وفي إسناد الخيبةِ إلى كل منهم مالا يخفى من المبالغة
(مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ) أي بين يديه فإنه مُرصَدٌ لها واقفٌ على شفيرها في الدنيا مبعوثٌ إليها في الآخرة وقيل من وراء حياتِه وحقيقتِه ما توارى عنك (ويسقى) معطوف على مقدر جواباً عن سؤال سائلٍ كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ إذن فقيل يلقى فيها ويُسقى (مِن مَّاء) مخصوصٍ لا كالمياه المعهودة (صَدِيدٍ) وهو قيحٌ أو دمٌ مختلط بمِدّة يسيل من الجرح قال مجاهد وغيره هو ما يسيل من أجساد أهلِ النار وهو عطفُ بيانٍ لما أُبهم أولاً ثم بُيّن بالصديد تهويلاً لأمره وتخصيصُه بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشدّ أنواعِه
(يَتَجَرَّعُهُ) قيل هو صفةٌ لماءٍ أو حالٌ منه والأظهر أنه استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذا يفعلُ به فقيل يتجرعه أي يتكلف جَرْعه مرة بعد أخرى لغلبة العطشِ واستيلاء الحرارة عليه (وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ) أي لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن الإساغة بل يغَصّ به فيشربُه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعةً فيطول عذابُه تارةً بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالِ فإن السواغ انحدارُ الشراب في الحلق بسهولة وقَبولِ نفس ونفيُه لا يوجب نفيَ ما ذكر جميعاً وقيل لا يكاد يدخُله في جوفه وعبّر عنه بالإساغة لما أنها المعهودةُ في الأشربة وهو حالٌ من فاعلِ يتجرعه أو من

الصفحة 39