كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 5)

إبراهيم 46 العذاب العاجلِ إلى حلول العذابِ الآجل فترتدعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي أو بيّنا لكم أنكم مثلُهم في الكفرِ واستحقاقِ العذابِ والجملُ الثلاثُ في موقع الحالِ من ضمير أقسمتم أي أقسمتم بالخلود والحالُ أنكم سكنتم في مساكن المهلَكين بظلمهم وتبين لك فعلنا العجيب بهم ونبهنا كم على جلية الحال بضرب الأمثال وقوله عز وجل
(وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ) حال من الضمير الأول في فعلنا بهم أو من الثاني أو منهما جميعاً وإنما قُدّم عليه قوله تعالى وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال لشدة ارتباطِه بما قبله أي فعلْنا بهمْ مَا فعلنَا والحالُ أنهم قد مكروا في إبطال الحقِّ وتقرير الباطل مكرَهم العظيمَ الذي استفرغوا في عمله المجهودَ وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدِرُ عليه غيرُهم فالمرادُ بيانُ تناهيهم في استحقاق ما فُعل بهم أو قد مكروا مكرَهم المذكورَ في ترتيب مبادى البقاءِ ومدافعةِ أسبابِ الزوالِ فالمقصودُ إظهارُ عجزهم واضمحلالُ قدرتِهم وحقارتُها عند قدرة الله تعالى (وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ) أي جزاءُ مكرِهم الذي فعلوه على أن المكرَ مضافٌ إلى فاعله أو أخذُه تعالى بهم على أنه مضافٌ إلى مفعوله وتسميتُه مكراً لكونه بمقابلة مكرِهم وجوداً وذِكراً أو لكونه في صورة المكرِ في الإتيان مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ وعلى التقديرين فالمرادُ به ما أفاده قوله عز وجل كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ لا أنه وعيدٌ مستأنفٌ والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في مكروا أي مكروا مكرَهم وعند الله جزؤه أو ما هو أعظمُ منِهُ والمقصودُ بيانُ فسادِ رأيِهم حيث باشروا فعلاً معَ تحققِ ما يُوجبُ تركَه (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ) في العِظَم والشدة (لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال) أي وإن كان مكرُهم في غاية المتانةِ والشدةِ وعبّر عن ذلك بكونه مسوًّى ومُعدًّا لإزالة الجبال عن مقارّها لكونه مثلاً في ذلك والجملةُ المصدرةُ بأن الوصليةِ معطوفةِ على جملةٍ مقدرةٍ والمعنى وعند الله جزاءُ مكرهم أو المكرُ الذي يحيق بهم إن لم يكن مكرُهم لتزولَ منه الجبال وإن كان الخ وقد حُذف ذلك حذفاً مطرداً لدِلالة المذكور عليه دلالة واضحة فإن الشيءَ إذا تحقق عند وجودِ المانع القوي فلأن يتحقق عند عدمه أولى وعلى هذه النكتةِ يدورُ ما في إنْ الوصليةِ من التأكيد المعنوي والجوب محذوفٌ دلَّ عليه ما سبق وهو قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وقيل إنْ نافية واللامُ لتأكيدها كما في قوله تعالى وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وينصره وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وما كان مكرُهم فالجملة حينئذ حالٌ من الضمير في مكروا لا من قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ أي مكروا مكرَهم والحالُ أن مكرهم لم يكن لتزولَ منه الجبال على أنَّها عبارةٌ عن آيات الله تعالى وشرائعِه ومعجزاتِه الظاهرة على أيدي الرسلِ السالفةِ عليهم السلام التي هي بمنزلة الجبالِ الراسياتِ في الرسوخ وأما كونُها عبارةً عن أمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأمرِ القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذا لماكرون هم المهلَكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين وإن خُصّ الخطاب بالمنذرين وقيل هي مخففةٌ من إنّ والمعنى إنه كان مكرُهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات مما ذكر من الآيات والشرائعِ والمعجزات والجملةُ كما هي حال من ضمير مكروا أي مكروا مكرَهم المعهودَ وإنّ الشأنَ كان مكرُهم لإزالة الآياتِ والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكرٌ كذلك وكان شأنُ الآياتِ والشرائعِ مانعاً من مباشرة المكر

الصفحة 58